قال الشيخ أبو العلاء: حذف النون من قوله الحاسدون لما استقبلها اللام، لأنهم يتوهمون الإضافة في هذا الموضع، كأنه قال والحاسدوك وكذلك قالوا) لا خفي لك (لأنهم توهموا سقوط اللام وقد حذفوا نون الجمع، وإن لم يكن ثم لام الإضافة، ويروى بيت ينسب إلى عبيد الأسدي وهو قوله: ولقَدْ يَغْنى بها جيرانُكِ المُمسِكُو مِنْكِ بأسْبابِ الوِصالْ
دُعِيتُ بِتقرِيظِيكَ في كُل مَجْلِسٍ ... وَظنَّ الذي يَدعُو ثَنائِي عليكَ اسمي
قال ابن جني: أراد وظن الذي يدعوني فحذف المفعول.
قال الشيخ:) دعيت (في معنى سميت، لأنهم يقولون جاءني رجل يدعى فلانا أي يسمى، وأراد دعيت بتقريظي إياك، فأقام المتصل مقام المضمر وأراد أنه قد عرف بمدحه، فكأنه قد صار اسما له، وإن الذي تسميه وتخاطبه قد ظن ثناءه على الممدوح اسما للمادح، وهذا إفراط في المبالغة.
فكمْ قائِلٍ لو كانَ الشَّخص نَفسه ... لكانَ قَراهُ مكْمَن العَسكرِ الدَّهْمِ
قال الشيخ: يقول كم قائل: لو كان هذا الشخص، يعني شخص الممدوح عظيما كنفسه، لكان قراه ظهره مكمنا للعسكر الدهم أي العظيم.
ومن التي أولها:
أحَقُّ عافٍ بِدَمْعِكَ الهِمَمُ ... أحْدَثُ شَيء عَهْداً بها القِدَمُ
قال ابن جني:) العافي هنا الطالب والقاصد (. وسألته عن معنى هذا البيت فقال: أحق ما صرفت إليه بكاءك هم الناس، لأنها قد ذهبت ودرست فصار أحدثها عهدا قديما.
قال الشيخ: معنى البيت يدل على أن العافي في هذا الموضع الدارس، ومن قولهم عفا الربع إذا درس، والدليل على ذلك قوله) بدمعك (لأن الطالب والسائل لا يستحق الدمع، وإنما يبكي على المنازل الدارسة) وأحق عاف (معناه أحق دارس بأن يبكي عليه همم الناس، وقوله) أحدث شيء (.. إلى آخر البيت جملة تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون لا موضع لها، لأنها كالمبتدأ، والآخر: أن تكون في موضع الحال من الهمم، ولا تعلق لها في الوجه الأول بالنصف الذي قبلها، وهي في الوجه الثاني متعلقة به وجعل القدم أحدث الأشياء عهدا بالهمم أي أن دروسها قديم ولا همم في الأرض، وقد شرح ذلك فيما بعده بقوله:
وإنَّما النَّاسُ بالمُلُوكِ ومَا ... تُفْلحُ عُريبٌ مُلُوُكها عَجَمُ
بَنُو العَفَرْنى مَحَطَّةَ الأسَدِ ال ... أُسد ولَكنْ رِماحُها الأَجَمُ
قال ابن جني:) العفرني (اسم من أسماء الأسد، ومحطة اسم جد هذا الممدوح ويقال إن المنصور قتله على الإسلام، وبنو العفرني مرفوع بالابتداء وخبره الأسد، ومحطة بدل من العفرني، والأسد وصف لمحطة.
كأنها في نهَارِها قَمَرُ ... حَفَّ بِهِ مِنْ جِنانِهَا ظُلَمُ
ناعِمَةُ الجِسّمِ لا عِظامَ لَها ... لَها بنَاتٌ وَمَا لَها رَحِمُ
قال الشيخ: شبه البحيرة بالقمر لبياض الماء، والجنان جمع جنة وهي الأرض التي سترها الشجر والنبات لشدة خضرتها، ومن ذلك قوله تعالى) مدهامتان (والغز عن البحيرة، وزعم أنها ناعمة الجسم، ولما جعل لها جسما زعم أنها لا عظام لها، يلغز بذلك لأن الجسم لا بد له من العظام، وذكر أن لها بنات يعني السمك، ونفى أن يكون لها رحم.
ومن التي أولها: فُؤادٌ ما تُسَليهِ المُدَامُ
أرَانِبُ غَيْرَ أنَّهُمُ مُلُوكٌ ... مُفَتَّحَةٌ عُيُونُهمُ نِيامُ
قال ابن جني: المعهود في هذا أن يقال: هم ملوك إلا أنهم في صور الأرانب فتزايد وعكس الكلام مبالغة، فقال أرانب غير أنهم ملوك فجعل الأرانب حقيقة لهم، والملوك مستعارا فيهم، وهذه عادة له يفارق بها أكثر الشعراء.
وقال الشيخ: الأرنب تنام وعيناها مفتحتان، وشبه الناس بالأرنب لأن عيونهم مفتحة، وكأنهم مع ذلك نيام، ولم يرد النوم الذي هو ضد اليقظة، وإنما أراد أنهم بله لا يفطنون لما هم فيه والعرب تمدح بقلة النوم، وتذم إذا ألف الرجل ذلك، قال الطرماح:
وليس أخو الحَاجات مَنْ باتَ نَائماً ... ولكنْ أَخُوها مَنْ يَبيتُ على وَجل
وَلَوْ لَمْ يَرْعَ إلا مُستَحِقٌ ... لِرُتبتِهِ أسامَهُمُ المُسامُ