وهاتان الموهبتان ليستا بمكتسبتين، وإنما يكتسب ما بعدهما لمن وفقه الله تعالى إلى العمل. بما يرضيه، فهذا هو الكمال الإنسان، ولا يوجد إلا بما تأتي به الرسل عن الله عز وجل، فمن اتبع هوه فلا يضل ولا يشقى. فلسرد الإنسان نفسه بما حض عليه صلوات الله عليه، وندب إليه، وليجعل ذكره كله ونظره في مخلوقات الله عز وجل ودرجاتها في الكمال، كمال الوجود، فيرى ببصيرة قلبه ما هو كل واحد منها، وعما هو، إلى أن ينتهي بالضرورة إلى أن يعلم ببصيرة قلبه أن الله خالق جميعها، وإنه وحده لا شريك له، وأنه واجب الودود بذاته، وإن كل ما سواه من الموجودات حادث ممكن الوجود من جهة ذاته واجب الوجود بذاته، لا إلاه إلا هو، خالق كل شيء، وهو بل شيء عليم. وعلمه بالأسباب جهة علمه بذاته، لا أنه يعلم الأشياء من جهة الأشياء، كما نعلمها نحن، ولذلك علمه هو هو. ولما صدرت جميع الأشياء عن كمال ذاته فهو يعلم الأشياء لعلمه بما صدر عنه، ألا يعلم من خلق، وعلمه بالأشياء هو سبب وجودها. صانع لسبب مصنوعه الذي يخرجه إلى الفعل إنما هو علمه.. وارتفاع العوائق لكن يحتاج إلى الأسباب ولها بأيدينا. والله عز وجل لا يحتاج إلى آلة، بل إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون. والصانع لمصنوع ما يعلم ما في موضوعه استنبطه فأخذه بالفعل من علمه. في مصنوعه، فليس علمه بما في مصنوعه من جهة مصنوعه، بل من جهة علمه بما صنع، وكل من سوى ذلك الصانع منا إنما يعلم بما في ذلك المصنوع المستنبط من جهة ذلك المصنوع المشار إليه بالفكر والبحث، حتى يحصل له ما كان في نفس المستنبط له، ولا سيما في الأمور الغريبة الاستنباط مثل ميقاتة الزرقالة، وكذلك مخلوقات الله عز وجل ما نعلم نحن فيها ما نعلمه من جهتها ومن جهة الفكر فيها ببصيرة القلب، والله عز وجل يعلمها من جهة علمه بما خلق وابتدع فإنما الإنسان ولي ذلك الإنسان.
خذ نفسك واعمل ببصيرتك في مخلوقات الله عز وجل حتى نوصلك إلى المعرفة به.
"إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً".
وإذا علمت الله عز وجل وكتبه ورسله فمن أصل ممن نسيه "نسو الله فأنساهم أنفسهم" ومن نسي نفسه ضلالاً بعيداً، إذا لا طريق له إلى الهداية، وصار في ظلمات الشهوات من اتخذ ألهه هواه. فكن ممن جعل هواه ذكر ربه بقلبه، ووالي ذلك بجهدك يهديك الصراط المستقيم، "صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين".
[نظر آخر يقوي تصور ما تقدم]
لما كان العقل علم ماهيات الموجودات، والموجودات قسمان: موجودات نعقلها ولا نقدر على إيجاد الموجود منها، فينقسم العقل قسمين، أحد القسمين عقل نظري يعقل الإنسان ببحثه ونظره موجودات لا قدرة له على إيجادها البتة، لكنها تحصل معقولة له، على نحو ما لخصناه قبل، والقسم الثاني أن الإنسان يعقل الموجودات الصناعية التي له قدرة على إيجادها، وهذا هو للإنسان العقل العملي، وكماله أن يعقلها ويوجدها وبين أن وجودها يوجد بإرادة الإنسان وإنما توجد بأعضاء بدن الإنسان و، إما بأن تتحرك الأعضاء دون آلت من خارج، وإما بأن تتحرك الأعضاء فتحرك آلات من خارج، فتحركه الأعضاء إذا تم وجود المصنوعات الصناعية التي تكون بإرادة الإنسان، وهذا بين بنفسه. وبين أيضاً أن أعضاء الإنسان ليست تتحرك من ذاتها لعمل ذلك المصنوع، بل تتحرك بإرادة الإنسان، ثم توجد خارج نفسه مصنوعاً مثاله في نفسه.. تأخذ الأعضاء في وجود ذلك المصنوع، وهذا المثال خيال متخيل في القوة المتخيلة من النفس فيه عموم، وهذا المثال المتخيل يزول عن النفس ويحصل. آخر. هكذا أبداً كلما أراد الإنسان أن يصنع شيئاً يقيم في الخيال مثال ذلك المصنوع.
وإذا أمعن الناظر التثبت رأى ببصيرة نفسه أن قوة أخرى في النفس تبسط هذا المثال في الخيال، وتنقله من حال إلى حال حتى يكمل وجوده في النفس، وإذ ذاك تبدأ بتحرك الأعضاء لوجود ذلك المصنوع. وهذه القوة التي تفعل هذا وتبسطه في التخيل، هي التي تسمى العقل العملي. وهي العاملة أولاً، ثم التخيل يتخذ الأعضاء التي تتحرك لعلمه على نحو ما تحركها الإرادة بالقوة النفسانية.