ومن جهات البرهان في بقاء العقل أن تلتفت أبداً في إلى بصيرة قلبك حتى تفنى تلك البصيرة، وهي التي تحوز بها المعقولات، وتراها بها كما ترى بصر العين نور الشمس الذي نرى به الملونات، حتى نرى بتلك البصيرة المعقولات، ونثبتها في العقل، ونتيقن وجودها وصدقها في العقل، حتى يكون الراجع والمرجوع إليه شيئاً واحداً. ومعنى ذلك أن يكون قائماً بذاته فقط لا يحتاج إلى شيء يقومه خارج عنه، بل هو الفاعل لذاته بتلك البصيرة، حتى يكون فعله هو ذاته وفي ذاته، فيكون الفاعل والصورة هو كالمادة، فإنه في ذاته ليس بمتكون من شيء آخر غيره.
أما أنه لا يعقل ذاته إلا بالبصيرة الفائضة عليه من الأول، وهي البصيرة التي يعقل بها ذاته، فإذا لم يتكون من شيء ولا يفسد إلى شيء. لأنه إن أخذ فاسداً فسد إلى ذاته، لأنه ليس بمكون من شيء. فيكون موجوداً حين يفسد، وذلك محال. وهو العلة والمعلول والحافظ لذاته، وكل ما يفسد فإنما يفسد بزوال علته وحافظه، وهو العلة والحافظ لمعلوله الذي يحفظه. ولو زالت العلة لبقي بما فيه هو هو، وكان يفسد حين يوجد، وذلك أيضاً محال.
[قال الشيخ أبو بكر رضي الله عنه]
[في تراتب العقول وخلودها]
ولي في هذا نظر أطول من وجوه، البرهان عليه: أنه يجب أن نضع اليقين بحقيقة العقل على ترتيبه من أقرب العقول إلى الأول إلى أبعدها رتبة، وهو عقل الإنسان. وإن وجوده ببصيرة تفيض من الأول واحدة بعينها، ثم تختلف بحسب القابل، يبصر بها المعاني منزلتها منزلة نور الشمس المبصر به. والمبصرات إذا التقت من ينظر بعقله في المعاني أبصر تلك البصيرة وكذلك نور العقل.
وكرر النظر والتثبت في أبواب إيضاح الخير تتيقن كيف ذلك، ولا سيما في الباب الرابع والمائة، والباب الخامس والمائة، والباب السادسة والمائة.
وظهر في مراتب العقل أن منه ما يفيض من الأول دون متوسط، ومتوسط أكثر. وإن نسبة من يفيض إليه ممن يفيض منه نسبة الضوء الذي من داخل بيت من نور الشمس الذي في صحن الدار.
خذ في نفسك ثلاثة أمور تعمل عليها تقربك من الله عز وجل: خذ لسانك بذكره وتمجيده وتعظيمه.
وخذ جوارحك بما يعطيه قلبك.
وتجنب ما يلهي عن ذكره أو يشغل القلب عنه.
فإذا أخذت نفسك ابدأ بهذه الأشياء الثلاثة كنت من المخلصين لله، ولا يتم ذلك إلا بالصبر على إدامته.
ومن قوله أيضاً
[في السعادة المدينية والسعادة الأخروية]
[أو دفاع عن أبي نصر]
أما ما يظن بأبي نصر في كلامه فيما شرحه من كتاب الأخلاق من أنه لا بقاء بعد الموت أو المفارقة، ولا سعادة إلا السعادة المدينية، ولا وجود إلا الوجود المحسوس، وإن ما يقال أن بها وجوداً آخر غير الوجود المحسوس خرافات عجائز، هذا كله باطل ومكذوب فيه على أبي نصر، وذكر ذلك أبو نصر في أول قرائته. وليس يشبه قوله في هذا أقوال التي هي لوازم برهانية. وأقواله في هذا الكتاب أكثرها منسوبة، ويتشوق الرد بها على جهة توبيخ وسح لا يليق بمثله، مثل ما يقوله فيمن يقول أن بها وجوداً آخر غير الوجود المحسوس أن قوله خرافات عجائز، بمثول سمجة ليكون حيوان عن حيوان أو عن النبات.
وليس القول فيما هي السعادة الآخرة خرافات، وسيتبين أن لها وجوداً آخر غير الوجود المحسوس.
وكذلك لا يشبه قوله أقواله فيما نسبه إلى بعض المتقدمين أنه يحصر عند المفارقة إحصاراً شديداً. وليس هذا قول أحد المتقدمين بل هو قول إخوان الصفاء الضالين.
ويظهر من هذا القول إن السعادة إنما هي أن يكون الشخص جزء مدينة يخدم أو يخدم بحسب مرتبته في أن تحصل له ولأهلها الخيرات الكثيرة المحسوسة المدنية الملذة على ما يليق بمصالح الجميع، ويخدم بحسب مرتبته في أن يحصل له ولأهلها على أفضل الأموال المدنية وأبلغها في بقاء النوع على السلامة بطول البقاء.