وهذه الموهبة من الله عز وجل، التي هي بصائر القلوب، تتفاضل في الإنسان تفاضلاً عظيماً، وأعظم البصائر الموهبة من الله عز وجل بصائر الأنبياء صلوات الله عليهم يعلمون الله عز وجل ومخلوقاته حق علمه، ويرون ببصائرهم الفائقة في نفوسهم ذلك العلم العظيم دون تعلم ولا اكتساب. وأجل المدركات العلم بالله تعالى وهو لا سد، ويهدهم الله لمعرفته ومعرفة ملائكته علم ما كان ويكون من الحوادث الجزئية الحادثة في هذا العالم يرونها ببصائر قلوبهم من يغر أن يشاهدوها ويعاينوها.
ودون الأنبياء أولياء الله الذين فطرهم على فطر فائقة يأخذون بها من الأنبياء ما يوصلهم إلى العلم بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والسعادة القصوى، ولا يزالون يصدقون بذلك حتى يروا علم ذلك في نفوسهم ببصائرهم بحسب درجات الموهبة من الله تعالى التي يبصرون بها نفوسهم على ذلك مسدون الدنيا ويأنسون ويلذون للفكرة بذكر الله ببصائرهم الفائقة، نطقت بذلك نفسهم أو لم تنطق، فإنه لا يخلو علم ذلك من نفوسهم. وهؤلاء المخلصون يفيض عليهم من الله عز وجل بحسب الرؤيا جزء يسير مما وهبه الله للأنبياء من الإطلاع على المغيبات التي تكون من الله تعالى في العلم على درجات.
وأولياء الله منهم صحابة النبي صلعلم، وكل من أخلص لله وصدق فلا بد له من السعادة الأخروية.
وبعد أولياء الله طائفة قليلة، وهبهم الله بصائر يتحققون بها على تدريج ما هو كل موجود بقيناً، إلى أن يبلغوا من العلم اليقين بمخلوقات الله عز ودل ما يبلغهم إلى العلم بالله وبملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة، ويروا يقيناً ببصائرهم أنهم تبرأوا بذلك عن البدن، وحصل لهم الكمال الذي هو السعادة القصوى التي هي بقاء بلا فناء وعز بلا ذل. وبالجملة أن يدرك الإنسان أجل مطلوباته وأكملها، وهو العلم بالله عز وجل، حتى يكون كل ما دون الذي أدركه حقيراً عنده لا يرضاه ولا يحاكيه، بل يحب ما هو فيه ويلتذ به أكمل لذة ويتعشقه، وهؤلاء هم مثل أرسطو وهم قليل جداً.
وابتاع هذه الطرائق عن ولائها طويلة، وربما مات طالبها في بعض طرق التعليم فلا يصل إلى السعادة التي هي السرور الدائم والطريق المضمونة التي لا تخيب.
ومن وهبه الله فطرة وبصيرة يرى بها حقيقة ما جاءت به الرسل فليهتد بهداه، وليلتزم أوامره وما جاءت به الرسل، وليوالي على التفكر وعلى ذكر الله، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، فإنه ينكشف له العلم بالله وبمخلوقاته فيكون من الذين هداهم الله الصراط المستقيم "صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليه ولا الضالين". والمنعم عليهم الذين وهبهم الله الموصلة إلى القرب منه، فعملوا بما يرضاه، وجعلها لهم نوراً يمشون بها على الصراط السوي. والمغضوب عليهم هم الذين وهبهم الله موهبة توصلهم إلى القرب منه فيعملون بما لا يرضاه ويتبعون هواهم. والضالون هم الذين يمشون بغير موهبة.
ومن جعل الله له نوراً يمشي به في الناس فليس كمن جعله في الظلمات ليس بخارج منها.
ومما يجب أن يقرر أن الفطر الفائقة يعلمها الله ما في العالم من الموجودات التي ابتدعها بقدرته من خلق السموات والأرض وما فيهن مما شان الإنسان أن يعلمها بالتعلم.
والفطر الفائقة إذا قربت من الله عز وجل علمها، وهو بكل شيء عليم. فإن المعقولات الأول التي يعلمها الله للإنسان المعد لأن يعلم بها إنما تحصل من الله عز وجل.
نظر آخر
[فيض العلم الإلهي]
والله عز وجل يفيض من علمه على موجوداته ومخلوقاته العلم والعمل فيقبل كل موجود بحسب مرتبته من كمال الوجود. والعقول تقبل منه العلم بحسب مراتبها، والأجرام تقبل منه الأشكال والصور النفسانية بحسب مراتبها، ومراتبها بحسب أمكنتها.
ولكل جرم سمائي عقل ونفس، فبالنفس يفعل الأفعال الجزئية المحسوسة على جهة التخيل، كانتقاله من موضع متخيل لا سرح على ذلك. وهذا الانتقال الجزئي المحسوس تحدث عنه أفاعيل جزئية محسوسة في الأجرام التي في الكون والفساد، وأظهر ما يكون هذا من الأجرام السماوية في الشمس والقمر.
وبالعقل يعلم الإنسان العلم المنزلة عليه من الله عز وجل ذوات معقولة، وجزئيات من الحوادث الحادثة في المستقبل وفي الحال وفيما مضى فيما لم يشاهد بالعيان، وذلك غيب الله عز وجل يطلع عليه من يشاء من عباده بوساطة ملائكته.