وظاهر أيضاً مما تبين هناك وتبين في كتاب الحيوان وكتاب النفس وما كتبناه نحن في رسالة الوداع، وفي أقاويل لنا غيرها أن المحرك الأول في الحيوان هو النفس. وهذا أيضاً أمر ذا تأمله الناظر أدنى تمل صح له وتبينه.
وقد تلخص في الأقاويل التي كتبت في النفس أن المحرك الأول للحيوان هو النفس النزوعية، وهي صنفان متقابلان لهما فعلان متقابلان: أحدهما لا اسم لجنسه فلنسمه على الإطلاق المحبة، ومنها يكون الطلب والانبساط، وفي هذا الجنس تدخل الشهوة الغذائية والغضب وسائر الأصناف الأخر.
والصنف الثاني الكراهية وبها يكون الهرب أو الترك وفيها يدخل الخوف والسأم والملال وما جانسه، وتبين هناك بالأقاويل البينة أن سبب هذه هي النفس الخيالية. وقد لخص هناك أصنافها. وهذه كلها توجد للإنسان إذا كان حيواناً، ويختص الإنسان بالحركة الاختيارية، وهي التي تكون عن النطق، وبها ينسب إلى الإنسان الخطأ والصواب، وبها يحوز الصنائع. وهذه أصناف قد لخصنا القول فيها في مسيرة المتوحد وتبين هناك أن الحركة الإنسانية الخاصة بالإنسان هي التي تكونه عن الأمور التي توجبها الروية الصادقة. وبين أن الروية إنما تكون ضرورة نحو أمر ما، وإنها نحو غاية ما، وهي الخير على الإطلاق.
فإن هذا الخير هو معشوق بالطبع محبوب للكل، والحيوان البهيمي إذ لم يعط النطق وهو الذي يعرف الخير بالإطلاق جعلت له معرفة الخير مقترنة بالمواد وذلك بالحس وبالتوهم. فأما الإنسان فإنه يعرف الخير في مواده ويعرفه مجرداً. ولذلك متى اشتهى الإنسان شيئاً، ثم علم بوجه ما أن ذلك الشيء الذي كرهه خير، ترك ما اشتهى وطلب ما كره في ذلك الأمر، فإن لم يفعل ذلك كان ذلك من فعله سفهاً ولعباً وضلالاً وما شاكل هذه الأصناف، إذ ليس لهذا الصنف اسم يخصه، وكان فعله ذلك حيوانياً لا إنسانياً. وقد بينا ذلك كله في سيرة المتوحد.
فالمحرك الأول على الإطلاق في الإنسان هو النفس وأجزاؤها، وأما الجسد فهو مجموع الآلات. فإن مجموع الآلة الطبيعية هو البدن، ولذلك الحيوان قد يموت ولم يعدم من جسده عضو، كما قد يغيب النجار ولا يعدم من آلاته آلة، غير أن الفعل لا يتم لها إذ المحرك الأول قد عدم.
وقد بينا في سيرة المتوحد أن الإنسان يقال أولاً في المعرفة بالجنس للجسد ولذلك يسمى الميت حيواناً باسم الجنس للجسد، ونظن ذلك على طريق التواطؤ ولهذا السبب تكرم جثث الموتى. ويقال ثانياً على النفس. ولهذا يقول سقراط يوم قتل لمن حضره فتكفلوا بي مر يظن على خلا الكفالة التي تكفلني من الحكام، إلى سائر ما قاله في هذا الفصل، فإن سقراط يقول: إن الذي يكون في موضعه عما قليل ليس بسقراط لكنه جثة سقراط، وأما سقراط فإنه ذهب مبادراً مسرعاً.
وقد تبين في تلك الأقاويل في رسالة الوداع تناسب المحركات التي في الإنسان. وإذ ذلك كذلك، فظاهر أن الخير موجود بنفسه غير مائت ولا بال، وأنه معشوق في الطبيعة، وأن الحركة عنه وإليه هي أفضل الأمور الموجودة للإنسان من جهة ما هو ذو جسد، فإن حصوله أفضل الأمور الموجودة للإنسان بالإطلاق، وأنه سواء عند وجوده له كان ذا بدن أو غير ذي بدن اللهم إلا من جهة ما يحرك، فإنه لا يمكن أن يحرك أو يكون ذا بدن، فإن البدن إنما كان ليحصل له هذا الخير، فهو آلته التي بها يتحرك، فهو له كالسفينة التي يتحرك بها الملاحون، فإذا حصل كان عند ذلك البدن آلة بها يحرك غيره، ولم يكن له في وجوده الأخص أثر اللهم إلا في وجوده محركاً، فإن كونه غاية وفاعلاً غير وجوده غاية، فلذلك متى ترك البدن كان غاية فقط. فإذا حصل من إنسان آخر في هذه الرتبة، كان عند ذلك هو جميع المتقدمين.
[في الوحدة والواحد]
يجب أن نفحص عن الواحد وأصنافه، وعلى كم نحو يقال، فإن ذلك يدخل الشك فيما تبين في المقولات أنها واحدة، وأن أرسطو مثلاً والفارابي واحد بعينه ذلك، وبالجملة في الأجناس والأنواع فائدته القول في هذا النحو في محمول القضية.
فقد ظهر إذن في الإثبات الموجود في النفس أن النفس إنما ركبت بذلك هذا النحو من التركيب.