ومن بعض ما ذكرته أن الأول يعلم الجزئيات من جهة علمه بحدودها، وهذا نقص في الوجود، لأنه وجود من كثرة معلومات، وليس علمه شيئاً إلا علمه بذاته، فهو يعلم الأشياء لا من الأشياء، بل من علمه بذاته الكاملة الوجود، وعن كمال وجوده فاض كل موجود إلى أنقص الموجودات. وعلمه بالموجودات هو سبب وجودها، وعلمه بالموجودات إنما هو علمه بالحركات، وأسبابها، فإنه مخترع الحركات كيف تكون. وجعل الأسباب كلها بعلم منه، مخترع الكل على ترتيب. فأول مخترع منه العقل الأول، ثم سائر الموجودات على ترتيب إلى أنقصها، وهي مادة الكون والفساد. وكل موجود في مرتبته وكماله واحد بذاته، ولا يكون به تشابه بين اثنين أصلاً فهو موصوف بما يوصف به الشخص الجزئي مما في الكون والفساد على جهة واحدة. وإنما قيل في الثواني في الأجرام السماوية إن بعضها أعم كلية من بعض من جهة ما يوجد عنها من الموجودات، لا من جهة ما تتشابه به. ألا ترى أن الأول يعلم جميع جزئيات العالم والثواني والأجرام السماوية، وكل واحد منها جزئي بذاته لا يتشابه به اثنان، فهو مخترع جميع جزيئات مادة الكون والفساد، وسبب وجودها إيجادها العقل الفعال، فإن لكل واحد من الثواني جرماً يفعل فيه بما رسمه نفس الجرم، ويوجده ذلك الجرم في جرم آخر. والعقل الفعال يرسم في نفوس أجرامه ما يقصد إيجاده في جزء جزء من المادة وإن دق، فالعقل الفعال متولى ذلك عن الأول، ويعلم ذلك، والأول ما يفوته منها جزء وإن قل، فهو يعلم كل نفس وكل كلمة ذرة، لأنها كلها محمولة في الهواء الذي هو محمول في جرم المادة.
والأول واحد بالحقيقة عنه فاضت جميع الموجودات، والأول أعم الموجودات عموماً من جهة أنه واحد عام لوجود جميعها، لأنه مخترع لها ولأسباب وجودها.
وإنك وإياي ممن يعلم ذاته بذاته. والعلم فعل ما، فذلك النور يفعل ذاته في ذاته لا يحتاج إلى فاعل غيره ولا يحلقه فساد.
فقد ضللنا أن شغلتنا أموالنا وأهلنا فالله الله اغتنم التفرغ وتزود فلا ينفع إلا القلب السليم.
من كلامه أيضاً رحمه الله
[في العلم الإنساني والعقول الثواني والعلم الإلهي]
[أو في مراتب العلم]
. يحصل الإنسان هو هو صورة من يعقله، وكذلك هو. صورة من حيث عقله، وليس حصول صورته بأن يعلم ذاته وكيف توجد وصفاته هي هو وكيف يكون علمه هو هو وكيف. أن الموجودات ثلاثة: أجسام، وأعراض في أجسام، ومعقولات ليست بأجسام ولا أعراض في أجسام. ونتدرج إلى علم ذلك من معرفة المعقولات عندنا التي هي عقلنا، وهي موجودات ليست بأجسام ولا أعراض تحتوي على موجودات كثيرة، وهي ذات العقل لنا، وفيها نعمل حتى يكون الراجع والمرجوع شيئاً واحداً، وكان فعلنا هو جوهرنا، وحصلنا تناسب العقول التي لم تزل عقولاً بالفعل. لكنا نحس الجسد باقياً يفعل أحياناً بالعقل فيه وأحياناً يقوي أجسامنا.
وأما الثواني ففعلها في عقولها دائماً وذلك بأن تعقل ما في عقلها دائماً، وذلك بأن تعقل في ذاتها الأول، وكيف حصلت جميع الموجودات عنه بحسب مراتبها منه.
والأول لا إلاه غيره يعقل ذاته فقط على كمالها فيعقل بعقل كمال ذاته ما يصدر عنه ويفيض من كماله، فيعلم جميع الأشياء لعلمه بذاته، فإنه لا يأخذ علمه بالموجودات أولاً ثم بأخرة يعقلها معلومة، على مثال ما يعقل الصانع المستنبط لموجود ما من جهة علمه به من ذاته، ثم كل من رأى ذلك الموجود من غير صانعه قد يعقله من بعد مدة وبعد فكرة كثيرة حتى يحصل له علمه به، وذلك هوان يعقله. مثال ذلك شخص الصفيحة والميكانة التي استنبطها الزرقالة فإنه إنما عقلها أولاً من ذاته لا من الميكانة والصفيحة، ثم من بعد رآهما بعده إنما يعقلها من ذينك الشخصين.
[نظر آخر]
[في الواجب الوجود والممكن الوجود]
حدود ومقدمات يقينية ونتائج عنها يجب أن نرتاض فيها حتى وجودها.
المبدأ يقال على ما له وجود حصل، أو يحصل عنه وجود شيء آخر مما ليس بموجود بوجه، ولا يمكن أن يحصل عنه موجود.
ومتى كان الفاعل له فاعل، وتسلسل إلى ما لا نهاية له، وجب إلا يوجد موجود بوجه، إذ ما لا نهاية له من الفاعلين غير موجود. فلذلك يجب بالضرورة أن ينتهي الفاعلون إلى فاعل أول واجب الوجود بذاته وهو السبب الأول