وكل متحرك فله محرك، وكل منفعل فله فاعل. والحركة في المكان إنما تنسب إلى الحيوان خاصة، وإلى الأجسام المستديرة. فلنترك القول فيما يخص المستديرة، فإنه ليس تنسب لنا هذه. والحيوان إنما يقال أنه متحرك بذاته ومن ذاته في المكان خاصة، وذلك أن فيه المحرك وهي النفس، والمتحرك وهو البدن، وقد تلخص ذلك في الثامنة من السماع. فالمنفعل هو البدن، والفاعل القريب هو النفس، وهو النزوع. ولا يكون نزوع إلا بوهم، وقد يكون الوهم ولا يكون نزوع. والوهم حتى يكون له كالآلة، أو هو في المتحرك حتى لا تكون هيولى لذلك الوهم إلا بذلك النزوع، فإنه ليس كل هيولي لكل متحرك، بل لكل محرك بالطبع متحرك بالطبع، وقد ذكر ذلك أرسطو في الثامنة من السماع. فأما أن التوهم ليس موضوعاً للنزوع، فذلك كالبين بنفسه، فالنزوع إذن في شيء آخر، ولأن النزوع في محسوسه، فهو ضرورة حال في جسم، إذ لا يحس إلا جسم. هل هو صورة لذلك الجسم كالزجاج، فإنه إذا كان زجاجاً بالقوة، وذلك عندما يكون حجراً، فليس يمكن أن يتخذ منه آنية. فأما إذا صار زجاجاً بالفعل أمكن ذلك كالرطوبة في السمع، فهو حال في ذلك الجسم، ولذلك الجسم وجود ما آخر، فلنفحص عن ذلك. والمقدمات الخاصة بهذا النظر الذي تتخذ منه الدلائل عليه قليلة، ولكن ليس يجب علينا لذلك ترك الفحص. وفي أمثال هذه يقول أرسطو: أنا وإن علمنا أنا لا نبلغ من العلم بهذا الأمر كنهه، فلنبلغ منه قدر الكاد، وهذا إنما هو في التصور لا في التصديق. فنقول: إنه قد تبين في غير موضع أن القلب أو ما يقوم مقامه هو مبدأ الحيوان، وأنه ينبوع للحار الغريزي الموجود في البدن، وإن بالحار الغريزي تكون جميع الحركات الموجودة في البدن، وأعني بذلك الاغتذاء وضروب النزوع والتوهم والتفكر، فإن الهضم وإن كان في المعدة فهي كالكتابة، وإن كان القلم هو الذي رسم الأحرف فإن الراسم هو الإنسان.
وبالجملة فالمحرك الأول هو الذي ينسب إليه الفعل كما تبين ذلك في ثامنة السماع، وقلناه نحن في رسالة الوداع. فإن المنصور هو الذي قتل عبد الله بن علي، وإن كان لم يتناول ذلك المنصور بيده وكان بعيداً عنه، فإن الآلة قد تكون متصلة بالفاعل، وقد تكون منفصلة. مثال ذلك الصائد هو الذي أخذ الذئب في الحبالة، وإن كان الصائد غائباً عن الحبالة عند وقوع الذئب فيها، وذلك أن الآلة إما أن يودع المحرك الأول فيها حالاتها تفعل فعلها فلا تحتاج ضرورة إلى اتصالها بالمحرك. وإما أن لا تقبل تلك الحال إلا وهي متصلة بالمحرك كالقلم.
[رسالة لأبي بكر محمد بن يحيى]
[في المتحرك]
[قال أبو بكر محمد بن يحيى]
قد تبين في السماع الطبيعي بالأقاويل التي تعطي اليقين إن كل حركة تكون عن أكثر من محرك واحد، وهي التي لا يتحرك فيها المتحرك بنفسه بل بغيره، فإنها منسوبة إلى المحرك الأول خاصة دون سائر المحركين، وذلك أيضاً بين قريب بنفسه.
وهذه القضية الكلية الصادقة يعترف بها الجمهور عند أخذها في موادها، فلذلك يقولون قتل الرشيد جعفراً، كما يقولون قتل المنصور أبا مسلم، وإن كان القاتل الأقرب لجعفر مسروراً أو من ائتمر له، وقتل أبي مسلم المنصور بيده، ولا ينظرون إلى المحرك الأقرب ولا يحفلون به في ذم أو حمد، اللهم إلا فيما كان للأقرب فيه موقع اختيار، فلذلك هو في بعض الأمور يجري مجرى الأول، فإن الأول إنما يعتقد فيه أنه بهذه الصفة. فإنه قد تبين في الثامنة من السماع أن المحرك الأول على التحقيق هو محرك الحركة السرمدية، لكنه بالإضافة إلى حركة حركة من الكائنة الفاسدة بالعرض لا بالذات. فلذلك يقال اللوم والحمد على ما حرك بالعرض. ولذلك كان في الشريعة عقاب قاتل الخطا غير عقاب قاتل العمد.
وأما الآلات فليس لها في وجود تلك الحركة حظ من حمد واحد أو ذم اللهم إلا في بعض أحوالها، وسواء كانت المحركات المتوسطات أجساماً غير متنفسة أو أجساماً متنفسة، ناطقة كانت أو غير ناطقة. وإن من ذم أو حمد المحرك القريب فهو، كما يذكر أفلاطون في الكلب، أنه يعض على الحجر الذي يرمي به ويترك الرامين اللهم إلا إن كانت الآلة المتنفسة بحيث يمكن أن يعتقد فيها أنها أول محرك. وهذا كله بين بنفسه ويقين معروف موثوق به.