للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فبين له شيخ الإسلام -رحمه الله- أن الوجود المطلق إنما هو أمر كلي، ومعلوم أن الكليات إنما هي أمور تتصور في الذهن ولا وجود لها في الخارج إلا مقيدة معينة، فالوجود المطلق الذي لا يتقيد بقيد ولا يتعين، إنما هو في الحقيقة أمر ذهني لا وجود له في الواقع ولا حقيقة، فكل وجود في الخارج فهو معين ومقيد، ولا يوجد في الخارج وجود مطلق، وهذا معروف حتى في قوانين المنطق الذي يحتكمون له ويرجعون إليه، وبهذا الجواب ينبه شيخ الإسلام مُناظِره إلى أن حقيقة قولهم هي نفي وجود الله إلا في الذهن، وهذا هو الإلحاد.

وبعد هذا الجواب من شيخ الإسلام، بُهت هذا الاتحادي وخرس. ولما لم يجد جواباً قال: نستثني الوجود المطلق من الكليات، أي أن الكليات جميعها إنما توجد في الذهن إلا الوجود المطلق فيمكن وجوده في الخارج، ولا يخفى أن هذا الجواب إنما هو مجرد تحكم وتخرص ليس إلا؛ فإنه قد أقر أن الوجود المطلق من الكليات ثم لما ألجمه شيخ الإسلام بالحجة والبرهان، عاد فاستثنى الوجود المطلق من الكليات بلا دليل ولا حجة، وإنما سفسطة ومكابرة وعدم إذعان للحق واعتراف به، كحال أهل المراء والجدال، ولذلك ضحك من كلامه شيخ الإسلام -رحمه الله؛ لأنه كلام المغلوب الذي لا حجة له.

[المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة]

لقد اعتنى شيخ الإسلام غاية الاعتناء بفهم مذهب هؤلاء الاتحادية ومحاولة توضيحه وتبيينه مع غموض عباراته وصعوبة مصطلحاته، حتى كان أحذق به من كثير من أهله والمنتسبين إليه، قال رحمه الله: «ولهذا لما بينت لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم وسر مذهبهم صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد، لجعلوني من أئمتهم وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف كما تبذله النصارى لرؤسائهم، والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون» (١)، وترى فَهم شيخ الإسلام لحقيقة مذهبهم جلياً واضحاً


(١) مجموع الفتاوى (٢/ ١٣٨).

<<  <   >  >>