للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما الكلام فكيف يكون قديماً وفيه إخبار عما مضى، فكيف قال في الأزل " إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه " ولم يكن قد خلق نوحاً بعد، وكيف قال في الأزل لموسى " فاخلع نعليك " ولم يخلق بعد موسى، فكيف أمر ونهى من غير مأمور ولا منهي. وإذا كان ذلك محالاً ثم علم بالضرورة أنه آمر وناه، واستحال ذلك في القدم، علم قطعاً أنه صار آمراً ناهياً بعد أن لم يكن، فلا معنى لكونه محلاً للحوادث إلا هذا. والجواب أنا نقول: مهما حللنا الشبهة في هذه الصفات الثلاثة انتهض منه دليل مستقل على إبطال كونه محلاً للحوادث، إذ لم يذهب إليه ذاهب إلا بسبب هذه الشبهة، وإذا انكشف كان القول بها باطلاً كالقول بأنه محل للألوان وغيرها مما لا يدل دليل على الاتصاف بها. فنقول: الباري تعالى في الأزل علم بوجود العالم في وقت وجوده وهذا العلم صفة واحدة مقتضاها في الأزل العلم بأن العالم يكون من بعد، وعند الوجود العلم بأنه كائن وبعده العلم بأنه كان، وهذه الأحوال تتعاقب على العالم ويكون مكشوفاً لله تعالى تلك الصفة وهي لم تتغير. وإنما المتغير أحوال العالم، وإيضاحه بمثال وهو أنا إذا فرضنا للواحد منا علماً بقدوم زيد عند طلوع الشمس وحصل له هذا العلم قبل طلوع الشمس ولم ينعدم بل بقي ولم يخلق له علم آخر عند طلوع الشمس فما حال هذا الشخص عند الطلوع،. أيكون عالماً بقدوم زيد أو غير عالم؟ ومحال أن يكون غير عالم لأنه قدر بقاء العلم بالقدوم عند الطلوع، وقد علم الآن الطلوع فيلزمه بالضرورة أن يكون عالماً بالقدوم، فلو دام عند انقضاء الطلوع فلا بد أن يكون عالماً بأن كان قد قدم والعلم الواحد أفاد الاحاطة بأنه سيكون وإنه كائن وأنه قد كان فهكذا ينبغي أن يفهم علم الله القديم الموجب بالاحاطة بالحوادث، وعلى هذا ينبغي أن يقال السمع والبصر، فإن كل واحد منهما صفة يتصف بها المرئي والمسموع عند الوجود من غير حدوث تلك الصفة ولا حدوث أمر فيها، وإنما الحادث المسموع والمرئي. والدليل القاطع على هذا هو أن الاختلاف بين الأحوال شيء واحد في انقسامه إلى الذي كان ويكون وهو كائن لا يزيد على الاختلاف بين الذوات المختلفة. ومعلوم أن العلم لا يتعدد بتعدد الذوات فكيف يتعدد بتعدد أحوال ذات واحدة. وإذا كان علم واحد يفيد الإحاطة بذوات مختلفة متباينة فمن أين يستحيل أن يكون علم واحد يفيد إحاطة بأحوال ذات واحدة بالاضافة إلى الماضي والمستقبل، ولا شك أن جهماً ينفي النهاية عن معلومات الله تعالى ثم لا يثبت علوماً لا نهاية لها فيلزمه أن يعترف بعلم واحد يتعلق بمعلومات مختلفة فكيف يستبعد ذلك في أحوال معلوم واحد يحققه أنه لو حدث له علم بكل حادث لكان ذلك العلم لا يخلو إما أن

<<  <   >  >>