وخرج يلتمس حراً يستجديه، وفاضلا يستهديه. فأرشد إلى أبي عامر بن شهيد، فكتب إليه كتابا يعرب عن فضل أدب، وكريم نسب. فقال للرافع له: ما زي هذا الرجل ولبسه؟ وكيف همته ونفسه؟. فأعلمه بما بدا من حاله؛ وظهر من اختلاله، فأمر بدخوله. فلما أدناه أبو عامر وقربه، ورتب له من البر والإكرام ما رتبه؛ ثم إنه أسر إلى وكيله بكلام لم يدره الرجل، إذ كان حائرا قد اكتنفه الخجل. ثم أمر أن يدخل في الحمام، ويحتفل في البر به والإكرام. فلما خرج منه ألفى سبنية بثياب أعدت له فلبسها، وأعيد إلى دار ابن شهيد، ووافق ذلك اليوم دعوة له لبعض القوم، فمكث الرجل وهو معلق البال، بمن تركه هنالك من العيال؛ فلما انتظم الأصحاب، وقدم الطعام والشراب، دخل الرجل مدخلهم في ذلك المأنس، وأخذ مكانه من المجلس؛ وأبو عامر بن شهيد يؤثر مكانه، ويدعو إلى بره إخوانه. فمكث الرجل بين فرح وترح، طورا ممتد الأنس، وتارة مكدر النفس. فلما كان عشي اليوم الثاني خرج الرجل وقد قُدم له مركب سار عليه، وغلام بشمعة بين يديه؛ إلى أن أدى به إلى هذه الدار، وهي مشهورة بقرطبة إلى الآن بين جميع الديار. فقال: أنزل يا مولاي. قال الرجل: ليست هذه داري، وإنما نزلت في الفندق الفلاني. فقال الغلام: بل هي دارك، أعطاكها سيدي، وأنا والدابة لك فأخرس الرجل ودخل الدار، فوجدها قد ملئت نعماً كثيرة، وفرشا وثيرة؛ وعياله في منضد تلك المجالس، قد أفرغت عليهن أفخر الملابس؛ وقد ملئت خزائنها بما يملأ العيون قرة، والقلوب مسرة.