فالجواب أن يقال: إن كلام اللَّه إذا دار بين التوكيد والتأسيس تعين حمله على التأسيس لأنه يحمل معنى زائدًا على مجرد التوكيد.
وعلى هذا يكون حديث الآية الأولى عن الرجل تكون عنده اليتيمة ذات مال وجمال يريد أن يتزوجها بدون أن يقسط في صداقها، ولفظ الآية الأولى يدل على ذلك كما تقدم في أول سورة النساء.
وحديث الآية الثانية في الرجل تكون عنده اليتيمة تشاركه في ماله وليست ذات جمال، فيرغب عن نكاحها، ويكره أن يزوجها غيره لئلا يشاركه في مالها، فيعضلها لأجل ذلك، ولفظ الآية الثانية يدل على ذلك فإن اللَّه قال:(فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ) أي من حقوقهن وأموالهن اللاتي يملكنها ولهذا قال في آخر الآية (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ)(وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) أي ترغبون عن نكاحهن.
ولفظ مسلم عن عائشة - رعِنها - يدل على هذا الفهم.
وأما قول الطبري: إن ذلك في المواريث، فسياق الآيات لا يسعفه.
وهنا سؤال: قالت عائشة - رضي الله عنها - ثم استفتى الناس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدُ فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ) فعن أيِّ شيء كانوا يستفتون؟ عائشة لم تبين هذا في حديثها، ولعل سبب سكوتها عن السؤال ظهوره في الجواب، فإن السؤال عادةً يظهر في الجواب.
فإذا كان الله قد أجابهم عمن يرغب عن نكاح اليتيمة ولا يؤتيها ما كتب لها، فحتماً كان سؤالهم عن ذلك، لأن اللَّه لما نهاهم عن نكاح من يرغبوا في جمالهن ومالهن بدون أن يقسطوا في صداقهن، فلم يبق إلا السؤال عمن لا يرغب في جمالهن ونكاحهن مع إمساكهن على أموالهن، وهذا ما بينته الآية.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ما كان يجري في عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث كان بعض الناس يعضل اليتيمة عن النكاح لئلا يُشرك في مالها ويرغب هو عن نكاحها لقلة جمالها فاستفتى بعض الصحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك فأنزل اللَّه الآية، وذلك لصحة السند وصراحة اللفظ وموافقة السياق.