للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا - أيضاً - باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهو من جنس التسلسل في تمام التأثير (١) .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رد عام على هذا القسم:

(التسلسل ممتنع في العلة، وفي تمام العلة، فكما لا يجوز أن يكون للعلة علة، وللعلة علة إلى غير غاية، فلا يجوز أن يكون لتمام العلة تمام، ولتمام العلة تمام إلى غير غاية، والتسلسل في العلل وفي تمامها متفق على امتناعه بين العقلاء، معلوم فساده بضرورة العقل) (٢) .

ولما كان التسلسل في المؤثرات ممتنعاً ظاهر الامتناع لم يكن المتقدمون من النظار يطيلون في تقرير فساده، لكن المتأخرون أخذوا يقررونه ويناقشونه مما سبب اشتباه التسلسل بالآثار بالتسلسل في المؤثرين عند كثير من المتكلمين (٣) .

ومن أقدم من نفى التسلسل في المؤثرات من الفلاسفة ابن سينا (ت - ٤٢٨هـ) ثم اتبعه من سلك طريقه كالسهروردي المقتول (ت - ٥٧٨هـ) وأمثاله، وكذلك الرازي (ت - ٦٠٦هـ) والآمدي (ت - ٦٣١) والطوسي (٤) وغيرهم (٥) .

لكنَّ متأخري المتكلمين زادوا في الحاجة إلى نفي التسلسل في المؤثرات الحاجة إلى نفي الدور (٦)

أيضاً، إلا أن الدور القبلي مما اتفق العقلاء على


(١) انظر: درء تعارض العقل والنقل ١/٣٦٥، ٩/٢٣٩.
(٢) درء تعارض العقل والنقل ١/٣٤٤.
(٣) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ٣/١٥٧.
(٤) الطوسي: محمد بن محمد بن الحسن، أبو جعفر، نصير الدين الطوسي، رحل إلى نيسابور وطوس، له صلة بالإسماعيلية والفلاسفة، ت سنة ٦٧٢هـ.
انظر في ترجمته: فوات الوفيات للكتبي ٣/٢٤٦، شذرات الذهب لابن العماد ٥/٣٣٩، الفيلسوف نصير الدين الطوسي للأعسم.
(٥) انظر: درء تعارض العقل والنقل ٣/١٦١.
(٦) الدور في الأحكام العقلية قسمان: دور قبلي، ودور معي اقتراني.

فأما الأول: وهو الدور القبلي: مثل أن يقال: لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلاً للآخر، وهو أن يكون هذا قبل ذاك، وذاك قبل هذا، وذاك فاعل لهذا، وهذا فاعل لذاك، فيكون الشيء فاعلاً لفاعله، ويكون قبل قبله. ويطلق عليه بأنه الدور (البعدي) كما في الدرء ٣/١٤٣ بأن يقال: لا يوجد هذا إلا بعد ذاك، ولا يوجد ذاك إلا بعد هذا، وهذا النوع من الدور ممتنع باتفاق العقلاء؛ لأن الشيء لا يكون قبل كونه، ولا يتأخر كونه عن كونه. فلو قيل: إن الشيء لا يوجد إلا بعد أن يوجد لكان هذا ممتنعاً، فكيف إذا قيل: إنه لا يكون إلا بعد ذاك؛ وقيل أيضاً: ذاك لا يكون إلا بعد هذا؟ فإنه يلزم أن يكون قبل قبل نفسه، وبعد بعد نفسه، فلزم الدور الممتنع أربع مرات. فيلزم من هذا الدور أن يكون الشيء موجوداً قبل أن يكون موجوداً، فيلزم اجتماع الوجود والعدم غير مرة.
وأما الثاني: وهو الدور المعي الاقتراني: فيراد به أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا، ولا هذا إلا مع هذا، كالأمور المتضايفة مثل البنوة والأبوة فيقال: لا تكون الأبوة إلا مع البنوة، ولا البنوة إلا مع الأبوة، ومثل صفات الخالق سبحانه وتعالى مع ذاته فيقال: لا تكون صفات الرب إلا مع ذاته، ولا تكون ذاته إلا مع صفاته وهكذا، وهذا النوع ممكن وصحيح وجائز.
وهناك أنواع من الدور لا تدخل فيما نحن فيه مثل الدور الحكمي في الفقه، والدور الحسابي في الجبر والمقابلة، انظرها في الرد على المنطقيين ص٢٥٧، وانظر في الدور عند ابن تيمية: بغية المرتاد ص٤٢٨، منهاج السنة النبوية ١/٤٣٨، الصفدية ١/١٢، ٢/٢١٨، درء تعارض العقل والنقل ٣/١٤٣، الأكملية (ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ٦/٧٨) .

<<  <   >  >>