للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حكمنا له بحكم أهل الإسلام لأنه مصادم للشارع مراغم للشرع بالزيادة فيه أو النقصان منه أو التحريف له فلا بد له من تأويل كقوله هي بدعة ولكنها مستحسنة أو يقول إنها بدعة ولكنى رأيت فلانا الفاضل يعمل بها أو يقر بها ولكنه يفعلها لحظ عاجل كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفا على حظه أو فرارا من خوف على حظه أو فرارا من الاعتراض عليه في اتباع السنة كما هو الشأن اليوم في كثير ممن يشار إليه وما أشبه ذلك. وأما غير العالم وهو الواضع لها فإنه لا يمكن أن يعتقدها بدعة بل هي عنده مما يلحق بالمشروعات كقول من جعل يوم الاثنين يصام لأنه يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الثاني عشر من ربيع الأول ملحقا بأيام الأعياد لأنه عليه السلام ولد فيه وكمن عد السماع والغناء مما يتقرب به إلى الله بناء على أنه يجلب الأحوال السنية ... فهذه كلها من قبل التأويل. وأما المقلد فكذلك أيضا لأنه يقول فلان المقتدى به يعمل بهذا العمل ... كاتخاذ الغناء جزءا من أجزاء طريقة التصوف بناء منهم على أن شيوخ التصوف قد سمعوه وتواجدوا عليه ومنهم من مات بسببه ...

ثم إن البدع على ضربين كلية وجزئية فأما الكلية فهي السارية فيما لا ينحصر من فروع الشريعة ومثالها بدع الفرق الثلاث والسبعين فإنها مختصة بالكليات منها دون الجزئيات ... وأما الجزئية فهي الواقعة في الفروع الجزئية ولا يتحقق دخول هذا الضرب من البدع تحت الوعيد بالنار وإن دخلت تحت الوصف بالضلال كما لا يتحقق ذلك في سرقة لقمة أو التطفيف بحبة وإن كان داخلا تحت وصف السرقة بل المتحقق دخول عظائمها وكلياتها كالنصاب في السرقة (١) ...


(١) وهذا منه يستدعي التعجب، فكيف يقرر هذا مع أنه يحكم على جميع البدع بالتحريم، وأن المكروه تنزيها غير وارد في حكم البدع حيث قال في الاعتصام (٢/ ٥٦): (والحاصل أن النسبة بين المكروه من الأعمال وبين أدنى البدع بعيد الملتمس). فلماذا خصص عموم زيادة ... (وكل ضلالة في النار) بلا مخصص، إلا أنه هاهنا بحث ينبغي الإشارة إليه، وهو الخلاف الذي ذكره العلماء في صغائر الذنوب وهل تقع مكفرة عند اجتناب الكبائر أم يشترط لها التوبة كالكبائر، فظاهر كلامه أنه اختار أنها تقع مكفرة، وأن فاعلها كفاعل المباح، وهذا القول ضعيف، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: (ص/١٧٨ - ١٧٩): [الصغائر هل تجب التوبة منها كالكبائر أم لا؟ لأنها تقع مكفرة باجتناب الكبائر لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} هذا مما اختلف الناس فيه فمنهم من أوجب التوبة منها وهو قول أصحابنا وغيرهم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم وقد أمر الله بالتوبة عقيب ذكر الصغائر والكبائر فقال تعالى: {) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وأمر بالتوبة من الصغائر بخصوصها في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ومن الناس من لم يوجب التوبة منها وحكي عن طائفة من المعتزلة ومن المتأخرين من قال يجب أحد الأمرين إما التوبة منها أو الإتيان ببعض المكفرات للذنوب من الحسنات وحكي ابن عطية في تفسيره في تكفير الصغائر بامتثال الفرائض واجتناب الكبائر قولين أحدهما وحكاه عن جماعة من الفقهاء وأهل الحديث أنه يقطع بتكفيرها بذلك قطعا لظاهر الآية والحديث والثاني وحكاه عن الأصوليين أنه لا يقطع بذلك بل يحمل على غلبة الظن وقوة الرجاء وهو في مشيئته الله عز وجل إذ لو قطع بتكفيرها لكانت الصغائر في حكم المباح الذي لا تبعة فيه وذلك نقض لعري الشريعة قلت قد يقال لا يقطع بتكفيرها بها لأن أحاديث التكفير المطلقة بالأعمال جادت مقيدة بتحسين العمل كما ورد ذلك في الوضوء والصلاة وحينئذ يتحقق حسن العمل الذي يوجب التكفير وعلى هذا الاختلاف الذي ذكره ابن عطية ينبني الاختلاف في وجوب التوبة من الصغائر ... وروي عن ابن عباس أنه قال لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار وروي مرفوعا من وجوه ضعيفة وإذا صارت الصغائر كبائر بالمداومة عليها فلابد للمحسنين من اجتناب المداومة على الصغائر حتى يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش ... ] إلا أنه حتى على اختيار القول بأنها صغائر المعاصي تقع مكفرة فيعكر على اختياره هذا بالنسبة للبدع ما سبق تقريره من الفرق ببين البدع والمعاصي.

<<  <   >  >>