للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رأى صاحب المعبر أطال الله مدة نياته عن الهالجين. وحقق أحلامه مع الفالجين. أن قد نصب له ذات يوم سلّم عال يشتمل على مائة درجة ليصعد إليه ويخطب القوم من أعلاه. فلما حلق لحيته وشاربيه ولبس ثيابه السلّمية أرسل من جمع القوم إلى موضع معيّن. وكانوا كلهم قد علموا بذلك من قبل وسبقوه إليه لما انه لبث ساعة امرأته حتى تقوم من الفراش فيرعّمها ويعانقها قبل توجهه. ثم تأبط كتابه وأقبل يجري إلى ذلك المحشد العظيم ولم يلتف يمنة ولا يسرة. فلما بلغ الموضع ورأى السلّم منصوباً والناس مجتمعين حوله كاد يطير من الفرح. فقال في نفسه هذه فرصة ما سمح الزمان لغيري بمثلها. فسأردّ اليوم هؤلاء القوم إلى بيوتهم بقلوب مثل قلبي وأخلاق كأخلاقي. ولو لم أعمل من الصالحات غير هذا لكفى. فقد كُتب اجري عند الله. ثم تمادى في الأفكار. وثمل من الاستبشار. واستقبل السلم وهو مدهوش. وما كاد يصل إليه إلا وقد مدّ رجله متفشّخاً إلى أول درجة منه دون أن يسلم على أحد من الحاضرين. ثم افتتح الخطبة بقوله الحمد لله الذي أمر بنصب السلم وارتضاه له عرشاً. فسمع أحد القيام هذا الاستهلال فأنكره. وقال لمن يليه ما أظن خطيبنا اليوم إلا معتوهاً. فلست أشاء أن أسمع منه أكثر من هذا ثم ولىّ. فصعد الخطيب الدرجة الثانية وقال: وجمع الناس هذا المحفل المبارك وكلهم فارش أذنيه للاستماع فرشاً. فسمع كلامه آخر من الوقوف فقال هذه الفقرة شرّ من الأولى. فإني لا أبالي بكون السلّم عرشاً أو نعشاً وإنما لإذني أن أفرشها ثم ولىّ. وما زال الخطيب يقول عند صعود كل درجة فقرة ركيكة مثل هذه وينفضّ عنه شخص وهو غير منتبه لما شمله من الفرح الذي أذهله من رؤيتهم حتى بلغ درجة المائة وقد انفض الناس كلهم عنه. فلما استقر عليها التفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً. فقال في نفسه قد الفت خطبتي وجمعت لها القوم. وهاهم قد تولوا وبقيت الخطبة معي فما لي لا أتلوها جهراً في هذا الموضع الشريف المترفع عن نجاسات الأرض وقذرها. فإن لم يسمعوها هم يسمعها الله وملائكته. فإنه يقال كلما بعد الإنسان عن الأرض زاد تقربه إلى السماء. ولست أرى موضعاً يصلح للخطب أكثر من هذا. ولعلَّ أحداً من المارين يلتقط كلمة مما أقول فتكون سبباً في خلاص نفسه ونفوس ذويه وجيرانه ومعارفه. فإن لفظة واحدة من فم واحد قد يكون فيها الموت والحياة.. ومن العيب أن أعود إلى زوجتي وأقول لها أن الخطبة بقيت غير متلوة. ثم انه مسح عرقه واصلح صوته وثيابه بعد أن جعل الخطبة على الكتاب وجثا يصلي قليلاً ويدعو الله لأن يلهم أحداً من الناس أن يمرّ به ويسمعه ثم قال ناشطاً مسروراً وقال. اسمعوا يا أخوتي الأحباء وأنصتوا اليوم لما أنا قائلة لكم. واتفق وقتئذ إن مر به رجل من الشعراء الغاوين. فلما سمعه يقول ذلك ولم ير عنده أحداً وقف وقال من أطلع هذا المجنون إلى رأس هذا السلّم. وأين اخوته الذي يخاطبهم أم عساه يكلم الجنّ في الهواء أن في هذا لعجبا. ثم صاح به انزل يا راجل ولا تعرض نفسك للهزء والسخرية إذ ليس يسمعك من عباد الله أحد. فلم ينتبه له الخطيب لأنه كان شاخص البصر نحو السماء. فاعتقد الرجل بأن به لمماً. فأراد أن ينزله بأية وسيلة كانت وأخذ في قطع أوتاد السلم وإطنابه. فلم يشعر إلا والسلم قد تقوض وسقط معه الخطيب وكتابه على رأسه أي على رأس الشاعر. فتهشم كل منهما وتحطم.

[التعبير]

لا ينبغي للخطيب أن يكون ثرثاراً. وإن داوم المولى الطرّاد على الثرثرة فلا يأمن منان يسقط سقطة تدق بها عنقه والله اعلم.

فكان هذا التعبير أنكى له وأقهر مما تقدم وذلك لنهيه عن كثرة الكلام ولو جازة العبارة. فلما كان بعد أيام جاءه برقعة فيها ما صورته: حلمت أن رجلاً من أصحابي قد أهدى إليّ قنبيطا مما ينبت في سهل الأردنّ. فاتخذت منه عشاء وبت فرأيت أني دككت أسوار مدينة في الجو تشبه مدينة أريحا في حصانتها ومناعتها. فكتب الفارياق بجانبه.

إذا ما تعشَّى القُنَّبِيط جراضم ... رمى الجوَّ من برج أسته بجلاهق

فيفعم ثقْبي منخريه عجاجها ... فيرجع أيضاً سبكها كالبنادق

<<  <   >  >>