للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلما تملص البائع من يديه صعد منبراً وقال. أيها الخصماء. ولا تعجلوا إلى اللوم فإنه من دأب اللؤماء. أن عيونكم قد غشي عليها فهي تبصر الأحمر أسود. وذوقكم قد فسد فعندكم أن اللحم خبز مُفْتاد. وعقلكم قد رك وحرض فأنتم تحسبون الحرير قطناً. والجوهر عهنا. فما ينصفنا إلا قيم السوق فهلموا إليه وإلا فأنتم من أهل الكفر والفسوق. فلما سمعوا مقالته وعلموا أن محاكمته لهم عند شيخ السوق شطط لكونه أضعف منهم بصراً وبصيرة لهرمه. التهبوا غيضاً فجعلوا يركسون الأمتعه ويشوشونها ويبعثرونها ويمزقون كل ما قدروا عليه ويطئون ما أمكن لهم وطؤه ويكسرون كل ما أصابوا من معد وصندوق وكؤوس وأكواب وخرجوا وهم سامدون. ثم تواطئوا على أن يعتقدوا مجلساً تلك الليلة ليدبروا في أمورهم. فلما كان المساء اجتمعوا وقالوا قد اتضح لنا إن هؤلاء الباعة ظالمون غابنون. وإن حواسنا لم تر الشيء إلا على ما هو عليه. فشكراً لله ولصاحبة المنديل التي هدتنا إلى هذا. فتعالوا نستقلّ بأمورنا ونعمل لنا مخازن ومعامل كما عملوا هم. ثم اتخذوا لهم شيعة وأخدانا وأصحاباً وأعواناً. وأسقطوا عنهم من السعر ما أمال إليهم كثيراً من الناس. وقالوا لهم أن عهدنا إليكم أن نبيعكم البضاعة بمرأى أعينكم ولمس أيديكم وذوق ألسنتكم. ومن لم يرض شيئاً اشتراه فإنا نبدله له بما هو خير منه. ثم بحثوا عن الدفتر ونشروه في جميع البلاد واستعملوا لذلك وسائل مختلفة. وقالوا للناس هاؤكم الدفتر النور. والدستور الأكبر. فلا تشتروا منا حاجة إلا على مقتضى تسعيرة. ولا تذهبوا إلى شيخ السوق فإنه هالك في غروره. فرضي الناس بما اشترطه هؤلاء على أنفسهم. وانفصلوا عن الشيخ المذكور وعن حزبه. وغدا كل من الحزبين يكذب حريفه ويسوئ عليه ويخطئه ويسفه ويحمرّه ويفنده ويحرفه ويلعنه ويكفره ويؤثمه ويفسقه.

وسبحان من يداول الأيام بين الأنام.

[الكتاب الثاني]

[دحرجة جلمود]

قد ألقيت عني والحمد لله الكتاب الأول وأرحت يافوخي من حمله. وما كدت أصدق أن أصل إلى الثاني فإني لقيت منه الدُّوار. ولا سيما حين خضت البحر مشيعاً للفارياق تفضلاً وتكريماً. إذ لم يكن مفروضاً عليّ أن أرافقه في كل مكان وقد مضى عليّ حين بعد وصوله إلى الإسكندرية والتقامه الحصاة من الأرض ولسان قلمي يتمطق وثغر دواتي مطبق حتى عاد إلى نشاطي فاستأنفت الإنشاء ورأيت أن أبتدئ هذا الكتاب الثاني بشيء ثقيل ليكون عند الناس أكثر اعتباراً وأطول أذكاراً. وكما إني ابتدأت الكتاب الأول بما يدل على إلمامي بشيء من العلويات إن كنت لما تنس ما مر بك، استحسنت الآن أن آخذ في شيء من السلفيات لأجل المطابقة. هذا ولما كان الحجر من الجواهر المنيعة المفيدة راق لي أن أدحرج منه هنا جلموداً من أعلى قمة أفكاري إلى أسفل حضيض المسامع. فإن وقفت تنظر إلى تصوبه من دون أن تتعرض له. وتحاول توقيفه مرَّ بك كما تمر السعادة عليّ. أي من غير أن يصيبك منه شيء. وإلا أي من استسهلت حبسه عن منحدره كر عليك ودفعك تحته. والعياذ بالله مما وراء هذا الدفع. فأنظر إليه ما هو متحرط للسقوط. هاهو متصوب فالحذر الحذر. قف بعيداً وأسمع من دويًه ما يقول.

أن من نظر بعين المعقول إلى هذه الدنيا وإلى ما أختلف فيها ائتلف من الأحوال والأطوار والجوار والأعراض. والأوطار والأغراض. والعادات والمذاهب. والمراتب والمناصب. وجد أن كل شيء يمر عليه منها يفوق كنهه إدراكه ويفوت تأمله. وأن حواسنا وأن تكن قد ألفت أشياء لم تغادر الألفة عليها محلاً للتعجب منها. إلا أن تلكم الأشياء لا تنفك في نفس الأمر عن كونها معجبة محيرة ومن تبصر في أدنى ما يكون منها حق التبصر رأى نفسه كمن قد أهمل أداء فرض تعين عليه. أنظر مثلاً إلى اختلاف ضروب النبات في الأرض فكم فيه من الأزهار البديعة الصنعة العجيبة الكينة من دون أن نعلم لها منفعة خصوصية. وإلى اختلاف أنواع الحيوان من دبابات وهوام وحشرات وغيرها. فإن منها ما هو حسن الشكل ولا فائدة منه ومنها ما هو قبيحه والحاجة إليه ماسة. وأنظر في السماء إلى هذه النجوم درارئها كوكب درّي ويضم متوقد متلألئ.

وخنسها الخنس الكواكب كلها أو السيارة أو النجوم الخمسة إلخ.

وبيانياتها الكواكب البيانيات التي لا تنزل بها الشمس ولا القمر.

<<  <   >  >>