للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلما رأت الأم أن لا إشارة تمنع البنت من الاشتيارة. ولا جَزْر يكفّها عن الجزر رجعت إلى منزلها واستدعت بالفارياق وقالت له: قد علمت أن السوقيين لا يبغون مصاهرتك. فإن كان عزمك على أن تتزوج ابنتي ينبغي لك أن تتسوق ولو يوماً واحداً. قال لا بأس، فعلى هذا تسوق يوم عقد الزواج وقرت عين كل منها ومن البنت. ثم أحضرت آلات الطرب ليلاً وأديرت الكؤوس وزها مجلس الأنس والسرور. والفارياق مواظب فيه على خدمة إدارة الكأس ومعيد على العازفين الأطراء وقوله آه وأيه واوه. حتى إذا كلت يداه ولسانه ورأى أن عزم الشْرب أن يسهروا الليلة كلها إلى الصباح أنسل من بينهم وصعد إلى السطح لكي يستريح. وكانت الليلة مقمرة من ليالي الصيف. فلما أبطأ عليهم ظنوا أنه تفلت أنه من الإرْبة فأخذوا في التفتيش عليه كما يفتش على امرأة فالك أو فارك. فلما وجدوه وعلموا أن نيته مخالفة لنيتهم أخلوا له ولعروسه حجرة وهموا بالانصراف. فقالت الأم لا أو تنظروا بأعينكم البصيرة. وسبب ذلك أن عادة أهل مصر في الغالب هي أن يتزوج الرجل المرأة من دون أن يعاشرها ويعرف أخلاقها. وإنما ينظر إليها نظرة واحدة بات تناوله مثلاً فنجان قهوة أو كاس شراب بحضرة أمها. فإن أعجبته خطبها من أهلها وإلاّ كف رجله عن زيارتهم. ومنهم من يتزوج ولم يكن رأى امرأته قط. وذلك بأن يبعث إليها أمّه أو عجوزاً من أقاربه ومعارفه أو قسيساً فيصفونها له بمقتضى ذوقهم وخبرتهم. والغالب أن أمّ البنت ترشي القسيس ليجيد صفة بنتها فيرغب الرجل في التزوج بها. ومنهم من يتزوج امرأة قاطنة في بلاد بعيدة فيبعث إلى أحد معارفه في تلك الجهة ليصفها له في كتاب ثم يستخير الله ويرتبق. ومع ذلك فإن عيش هؤلاء المتزوجين على هذا النمط يكون هنيئاً. فأما في بلاد الشام فعادة أهل المدن كعادة أهل مصر وعادة أهل الجبل مغايرة. فإن الرجل هناك يتمكن من رؤية المرأة ومعرفة أخلاقها. هذا ولما كان الفارياق قد تعدّى حدود العادة بمصر في كونه اجتمع بالبنت مراراً عديدة في حضور أمها وفي غيابها. أرادت أمها أن تنفي العار بإظهار علامة البكارة. حتى يشيع خبر براءة البنت في جميع البلاد. فإن أكثر الناس لا شغل لهم إلاّ الكلام. فاجتمعت تلك الزمرة وراء الباب بعد أن جمعوا العروسين. وطفق الواحد منهم ينادي ويقول افتح الباب يا أبا مزلاج. فظن الفارياق أنه يريد الدخول عليهما ليعلمه كيف يكون العمل. ففتح له فقال له ما هذا الباب وإنما أردت باب الفَرج. فرجع إلى عروسه وإذا بآخر يقول لجِ القبَّة يا ولاّج. وآخر ثجّر الطعنة يا بجّاج. وغيره ارو الصدى يا ثجّاج. وآخر أزل الزَغَب يا حلاج وغيره أفرغ السجل يا خلاج - أسرع الوطء يا زلاج- املأ الوطب يا زمّاج- ملل الملمول يا مّعاج- اغطس في اللجة يا غاطس- افقس البيضة يا فاقس- أجلِ المسواك يا وامس- تسوّر السور يا معافس- روّض المهرة يا فارس. ومازالوا به حتى شام أبا عُمَيْر وناول أمها البصيرة. فتهللت منهم الوجوه فرحاً وحبوراً. وصفقت الأيدي استبشاراً وسروراً. ونطقت الألسن بالتبرئة. وختموها بالتهنئة. ثم انصرفوا وكأنهم قد قفلوا من غزوة غانمين. وكادت الأم تطول عن الأرض شبراً لهذا الفتح المبين.

القصيدتان الطيخيّتان

ما كنت أول عاشق بين الورى ... تبع العشيقة من أمام ومن ورا

ورأى البكاء له معينا شافيا ... يوما ويوما أضحك المستعبرا

ويكون مصروع الغرام مزبّبا ... متكسّسا مستقبلا مستدبراً

ومحنبشا ومجّمشاً ومدهفشا ... ومكنّصا ومزنجرا ومعنجرا

ومرنمّا ومغنّيا ومصفّرا ... ومشببا ومطبلا ومزمرا

وفيينة متثائباً متمّطيا ... وفيينة متقاعسا مقعنصرا

وإذا رأى رأيا رشيدا كان في ... إبرامه مترهئا متأخرا

فالعشق عقل العقل عن صيّوره ... حتى يضل عن الصواب ويبطرا

قد كنت أعْجب أن يقولوا شاعر ... ذو جِنَّة وأخال ذلك مفترى

حتى لَقِيتُ صُوَيحْبيّ كليهما ... فإذا هما من طينة قد صُوّرا

خُلِق الجمال لعين صبّ جنّة ... ولقلبه نارا تزيد تسعّرا

لا غرو أن يغدو لحمرة وجه من ... يهوى وقد حمل الغرام محمّرا

يا ليت يغني المرء يوما واحدا ... عنهن من شيء يباع ويشترى

<<  <   >  >>