للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما الفارياقية فإنها نقهت بعد أيام وصممت على السفر فكتب لها زوجها كتاب توصية إلى المولى المعظم سامي باشا المفخم في مدينة القسطنطينة. ثم شيّعتها وسفر معها اصغر أولاده تسلية لها. ولما حان حان الفراق توادعاً وتباكياً وتواجداً حتى إذا لم تعد العين تجيبهما بالدمع وهي العسقفة والعسقبة والتبغيض رجع إلى منزله مستوحشاً مكتبئاً. وسافرت هي إلى مرسيلية فزال ما كان بها وشفيت أتم الشفاء. لكنها لم تغير نيتها عن السفر إلى إسلامبول. ثقة بأن هذا الفراق يكون سبباً في وشك اللقاء. فلما بلغت مقام المولى المشار إليه وأدت كتاب التوصية لولده النجيب الحسيب صبحي بيك إذ كان والده حينئذ غائباً، اكرم مثواها وأحسن إليها غاية الإحسان. وهذا مثال آخر على الكرم الشرقي ينبغي أن يبلغ مسامع الأمراء الغربيين من الإفرنج. وفي غضون ذلك نظم الفارياق للموما إليه قصيدة يمدحه بها على كرمه ومعروفه. ولزوجته أبياتاً أودعاً ذكر ما لقي من وحشة النوى وستأتي كلها في الفصل التالي الذي هو خاتمة هذا الكتاب. ثم أنتقل من منزله ذاك إلى غرفة وجعل دأبه في كل يوم نظم بيتين على بابها. ثم بلغه قدوم السيد الأكرم الأمير عبد القادر إلى باريس فأهداه أيضاً قصيدة وتشرف بمجلسه. ثم عيل صبره من الوحدة فاستماله بعض معارفه إلى اللعب بهذه الأوراق المزوقة فصار من زمرة المقامرين. لكن جهله بها كان غير مرة يبعث شريكه على العربدة عليه. فكان يرضى بأن يكون حرضه فقط. "الحرضة أمين المقامرين" ثم تعرف برئيس تراجم الدولة وهو الكونت ديكرانج فأما غيره من التراجميين وشيوخ العلم ومدرسي اللغات الشرقية فلم يطأ لهم عتبة. لأنهم نفسوا عليه بمائهم وبضيحهم وبودهم وكلامهم ولقائهم حتى إنهم أبوا أن يطبعوا له قصيدته التي مدح بها باريس بعد أن وعدوا بذلك. وما كان خلفهم إِلا حسداً ولؤماً.

[نبذة مما نظمه الفارياق من القصائد والأبيات]

[في باريس على ما سبقت الإشارة إليه]

أي فارياق، قد حان الفراقز فإن ذا آخر فصل من كتابي الذي أودعته من أخبارك ما أملّني والقارئين معي. ولو كنت علمت من قبل الأخذ فيه بأنك تكلفني أن أبلغ عنك جميع أقوالك وأفعالك لما أدخلت رأسي في هذه الربقة. وتجشمت هذه المشقة. فقد كنت أظن أن صغر جثتك لا يكون موجباً لإنشاء تأليف كبير الحجم مثل هذا. وأقسم إنك لو تأبطته ومشيت به خطى على قدر صفحاته لنبذته ورآك وشكوت منه ومن نفسك أيضاً إذ كنت أنت السبب فيه. وما تمنعني صداقتي لك إذا وقفت على أحوالك بعد الآن إن أؤلف عليك كتاباً آخر. ولكن إياك وكثرة الاسفار، والتحرش بالقسيسين والنساء في الليل والنهار. فقد مللت من ذكر ذلك جداً. ولقيت منه عناء وجهداً. والآن قد بقي عليّ أن أروي عنك بعض قصائدك وأبياتك. ولكن قبل الشروع فيه ينبغي أن أذكر حكاية حالي.

<<  <   >  >>