للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهي إني لما كنت في هذه السنة بمدينة لندرة وشاعت أراجيف الحرب بين الدولة العلية ودولة روسية نظمت قصيدة في مدح مولانا المعظم وسلطاننا المفخم السلطان عبد المجيد أدام الله نصره وخلد مجده وفخره وقدمتها لجناب سفيره المكرم الأمير موسورس فبعث بها جناب فخر الوزراء سيدي رشيد باشا بلغه الله ما شاء فلم تمض أيام حتى بعث المشار إليه الأمير السفير يخبره بأنه قدّم القصيدة للحضرة السلطانية في وقت رضى وقبول ووقعت لديها موقعاً حسناً. وإنه صدر الأمر العالي بتوظيفي في ديوان الترجمة السلطاني. فكان هذا الخبر عندي أسرّ ما طرق مسمعي. فينبغي لي الآن إن أتأهب للسفر لا تشرف بهذه الوظيفة. ولكن أعلم أيها القارئ العزيز إنه لما كان همي وقصارى مرامي كله إنجاز طبع هذا الكتاب قبل سفري إلى القسطنطينية وكان مكثي في لندرة موجباً لتأخيره. لأن أجزاءه المطبوعة كانت ترسل إليّ فيها لأصححها آخر مرة من قبل الطبع. أشار إليّ الخواجا رافائيل كحلا الذي ولي طبع الكتاب بنفقته إن أسافر إلى باريس تعجيلاً لطبعه فأجبت إلى ذلك. وكان وقتئذ في مرسى لندرة سفينة نار للدولة العلية يراد تسفيرها بعد مدة. فالتمست من صاحبي الخواجا نينه الذي قدم مع الخواجا ميخائيل مخلع في مصلحة متجريه بأن يراقب وقت سفر السفينة ويخبرني بذلك لئلا تفوتني فرصة السفر معها. وكان للخواجا نينه المذكور بعض حاجات ومآرب في باريس جلها بامرأته فوكل بشرائها بعض معارفه هناك. حتى إذا اشتراها له أوعز إليه في أن يسلمها لي وكتب إليّ كتاباً يقول فيه أن السفينة لا تلبث أن تسافر فالأولى سرعة رجوعك إلى لندرة. فصدقت قوله وأقبلت أسعى إلى لندرة وأنا موجس أن تكون السفينة قد سافرت دوني. وتركت التصليح على عهده الخواجاً رافائيل الموما إليه. فلما وصلت إلى لندرة تبين لي أن نصح صاحبي لم يكن مقصوداً به حاجة حضوري ولكن إحضار حاجته معي ليتوفر عليه بذلك جعلها ومكسها ولتتزّين بها زوجته قبل انقضاء أوانها. فإن السفينة بقيت في المرسى مدة طويلة لتصليح آلاتها على علم من ناصحي. فكان قدومي إلى لندرة هذه المرّة الثانية سبباً في تأخير الطبع أيضاً لأجل لزوم إرسال الصحائف إليّ لأنظرها قبل الطبع كما سبقت الإشارة إليه. ولولا ذلك لنجز الكتاب سريعاً. غير أني أحمد الله تعالى على إنه لم يعرض له من الأمور النسائية إلا ما أوجب تأخير طبعه فقط دون أبطاله ونسخه بالكلية. فقد طالما أشفقت عليه من ذلك كما أن الفارياق يشفق على فساد ترجمته من أمثال هذه العوارض. وهذه القضية مصداق على ما قالته الفارياقية في الفصل التاسع من الكتاب الرابع من أنه قد يجتمع اثنان في زواج أو في شركة أو غير ذلك ويكون قد تقرر في بال أحدهما إن له منة على صاحبه. فمتى وردت على سمعك يا صاحبي نصيحة من أحد فأنشر طيّها وأسبر غورها لتعلم هل الغرض منها نفعك خاصة أو نفع ناصحك وحده أو نفعكما معاً. ولكن لا تبتدئ بنصيحتي هذه فإني لم أقصد بها إلا مجرد نفعك فقط. وأعلم يا فارياق إنه قبل تشرف قصائدك وأبياتك بإدماجها في هذا الكتاب يجب عليّ أن أشرفه والقارئين أيضاً بالقصيدة المشار إليها وهي:

الحق يعلو والصلاح يعمر ... والزور يمحق والفساد يدمر

والبغي مصرعه ذميم لم يزل ... آتيه عرضة كل سوء يثبر

والوغد تبطره من النعم التي ... يغنى بها الحرّ الكريم ويشكر

طغت الطغاة الروس لما غرَّهم ... في الأرض كثر سوادهم وتجبروا

كادوا ويرجع كيدهم في نحرهم ... فطُلاهم دون القواضب ينحر

المعتدون ولا نهى تنهاهم ... الظالمون القاسطون الفجّر

نقضوا العهود وكان ذلك دأبهم ... لؤماً وللعدوان بغياً اضمروا

حتى أرى بعض المآثر رأسُهم ... بخس الحقوق وساء من يستأثر

أيظن أن الدولة العليا السويد ... وإنّه هو بطرس المتأخر

كلاّ ليرتدعنَّ ثم ليعلمنّ ... أن ربَّها من يبتغيها يثأر

يا مسلمون تثبّتوا أن جاءكم ... نبأ عن الروس العدى وتبصّروا

لا يغررنَّكم كثير جموعهم ... فالحق ليس يضيره المستكثر

يا مؤمنون هو الجهاد فبادروا ... متطوعين إليه حتى تؤجروا

هذا جهاد الله يحمي عرضكم ... فاسخوا عليه بكل علق يُدخر

<<  <   >  >>