للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم أن الفارياق لما آن وقت بطالته من إصلاح البخر وهو ثلاثة أشهر الصيف في كل سنة عزم على أن يسافر إلى تونس. فركب في سفينة رئيسها من أهل الجزيرة الذين هم بين السوقيين والخرجيين مرة. ومرة بينهم وبين الفلاسفة. وبعد سفر أثني عشر يوماً كلها خطر وعناء بلغوا حلق الواد. فكان بعض الملاحين يقول في أثناء الطريق أنه إنما وقع لهم ذلك بخلاف العادة لكون الرئيس سافر يوم الجمعة خلافاً لسائر الرّبّانيين فأنهم لا يسافرون فيه أصلاً أما احتراماً له أو تشاؤما منه. لكن الفارياق كان يعلم حقيقة السبب وهو هبوط طالعه. وأن نية سفره سواء كانت قريبة أو غير قريبة لا يبلغ إليها إلا في عدة أثني عشر يوماً. وإنما كتم ذلك عنهم. قال أما المدينة فإنها ضيقة الأسواق صغيرة الحوانيت. غير أنها طيبة الهواء والمأكول والمشروب كثيرة الفواكه. وأهلها طيبون خيرون يكرمون الضيف ويحبون الغريب. رفيها من المغنين والعازفين بآلات الطرب كثير ومعظمهم من اليهود. ونساؤهم حسان سمان بيض دعج برغم النصارى القائلين أن الله لعنهم ومسخهم بعد صلبهم سيدنا عيسى عليه السلام ونزع منهم كل حسن باطني وظاهري. غير أني أظن أن القسيسين إذا نظروا يهودية جزلة بضّة ربحلة يبدّعون صاحب هذا المذهب ويفنّدونه. وإنما يقول ذلك منهم من كان لزق النصرانيات ولم يرَ غيرهن. ومعلوم أن النفس ترغب في الحاضر الموجود عن الغائب المفقود. أو لعلهم يريدون أن المسخ إنما نزل بالرجال دون النساء فلْيُسألوا. وأن كثيراً من هؤلاء الغير الممسوخات غير بعيدات عن الغصن والهصر. ومن عادتهنّ أن يمشين غير متبرقعات مكشوفات السوق. ثم لمّا أزف رحيل الفارياق من المدينة قال له بعض معارفه من أهلها لو مدحت وإليها المعظم. فأنه أكرم من أعطى وأنعم. وأكثر الناس ارتياحاً إلى الجود والمعروف. قال قد نويت الآن السفر فلم يعدلي ممكناً غيره. ثم رجع إلى الجزيرة وكان من جملة الركاب الذين رجعوا معه رجلان نمساويان أحدهما أبن أحد التجار الأغنياء والآخر من قواد عسكر البابا. وكان هذا قد أخذ من الفارياق واحدة من هذه النبخات الدقاق فردها عليه بعد يومين. فلما استقر الفارياق بمنزله خطر بباله أن ينظم قصيدة في مدح جناب المولى المشار إليه. فأنشأ قصيدة طويلة ذكر فيها كل ما شاقه هناك من المحاسن ولكن من دون تعرّض لذكر محاسن نساء اليهود. فلم يشعر بعد أيام إلا والمولى المشار إليه بعث له بهدية من الماس تضن بها الملوك على ندمائهم. ومعها كتاب من ناموسه المعظم ووزيره المفخم مصطفى باشا خزندار. هذه صورته "المحبّ الذي رعى المودة شأنه. والكمال سجية قام بها عمله ولسانه. الأديب الأريب. الآخذ من كل فنٍّ أوفر نصيب. حسن الأخلاق. والحائز في مضمار البلاغة قصب السباق. البارع الفارياق. لا زالت محاسنه نيّرة الإشراق. وبلاغته كواكب آفاق. أما بعد نعمتنا ومولانا وسيدنا المشير أحمد باشا باي أمير الإيالة التونسية. لا زالت بوجوده محمية. بلغ لرفيع جنابه من آدابكم قصيدة تحلىّ بها شعركم. واتضح بها فخركم. ويدوم بها ذكركم. فلله در منشيها ومبدعها وموشيها. حيث ملك من البلاغة دانيها وقاصيها وألقت لديه مقاليدها ونواصيها. والمولى أيده الله حسن لديه موقع خطابكم. وأثنى عن بلاغتكم وآدابكم. روجه لكم من حضرته العليا حكة تتذكر بها وداده وإيالته وبلاده. فأقبلها من أفضاله ومن نزور نواله. والله يحرسكم بعين عنايته. ويسبل عليكم ستر عاقبته. وكتبه الفقير إلى ربه تعالى مصطفى خزنة دار الدولة التونسية في الرابع والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة ١٢٥٧."

<<  <   >  >>