فنقول إنه إذا تحفظ بما تبين في كتاب الحيوان أن الموضوع الأول لهذه القوة ولسائر قوى الحس هي الحرارة الغريزية التي هي في القلب بذاتها وفي سائر الأعضاء بما يصل إليها من الشرايين النابتة من القلب، وأن الدماغ إنما وجد لأجل تعديل هذه الحرارة الغريزية في آلة الحس، وذلك أنه ما كان يمكن أن تدرك هذه القوة الأشياء الخارجة عن الاعتدال إلى الكيفيات المفرطة إلا أن تكون آلتها في غاية من التوسط والاعتدال، حتى تدرك الأطراف الخارجة عنها وهذه حال اللحم، ولذلك كلما كان اللحم اعدل كان أكثر حساً كما نرى ذلك في حس باطن الكف، والعصب بعيد مزاجه من مزاج المتوسط ولذلك كان حسه عسيراً إذ كان بارداً يابساً.
وبهذا تبين أن الدماغ ليس هو ينبوع فذه الحاسة كما اعتقد جالينوس، وإنما هو ينبوع القوى المعتدلة، وإنما احتيج في آلة هذه الحاسة أن تكون معتدلة بين أطراف الكيفيات، لأنه لم يتفق فيها أن يكون خلواً من المحسوسات. التي تدركها ولا موجودة فيها بالقوة المحضة، كما اتفق في آلة الإبصار أن كانت خلوا من الألوان، وكذلك لسائر القوى الأربع. وإنما كان ذلك كذلك لأن هذه الآلة إنما صارت آلة لهذا الإدراك من حيث هي ممتزجة والممتزج لا بد فيه من وجود الكيفيات الأربع.
وأما منفعة هذا التبريد الذي للدماغ في حاسة حاسة فقد فحص عنه في كتاب الحيوان، وإذا وضعنا هذا كله هكذا وأضفنا إلى هذا أن العصب إنما ينبت من الدماغ لأنه شبيه بجوهره، حصل منِ مجموع هذا كله أن اللحم إنما يحس بالحرارة الغريزية التي فيه حساً تاماً.
فأما إذا تعدلت حرارته بالأعصاب الواصلة إليه من الدماغ ويشبه أن تكون هذه الأعصاب إنما هي موجودة في الحيوان الكامل من اجل الأفضل وإلا فالحيوان الضعيف الحرارة كالحيوان المخزز وما أشبهه فإنه لا غناء لوجود هذه الأعصاب فيه، وبخاصة في الحيوان الذي ليس يوجد له من قوى الحس غير هذه القوة كالإسفنج البحري وغير ذلك.
ولذلك نرى كثيراً منِ الحيوانات التي ليست أعضاؤها كثيرة الآلية إذا فصلت تبقى زماناً تتحرك وتحس الأجزاء المقطوعة فيها بخلاف الحال في الحيوان الكثير الأعضاء الآلية، بل يكفي في وجود كثير من هذه الحيوانات وجود القلب والدماغ فقط أو ما تنزل منزلتها. وقد جمح بنا القول عما قصدنا له، إذ كان الفحص عن هذه الأشياء أليق المواضع به كتاب الحيوان، فقد تبين من هذا القول ما آلة هذه القوة، وأما أن هذه القوة ليست تحتاج في إدراكها إلى متوسط فهو بين مما قلناه فيما سلف أن المتوسط إنما احتيج إليه في الحواس لأحد أمرين: أحدهما تكون المحسوسات غير ملاقية لآلة الحس. والثاني لمكان الترقي من الوجود الهيولاني إلى الوجود الروحاني، إذ كانت الطبيعة إنما تصير إلى الأضداد أبداً بمتوسط وهذه القوة من جهة أن محسوساتها إنما تحس بها وهي ملاقية لآلتها، لم تحتج إلى متوسط بهذه الجهة، ومن جهة أيضاً أن آلتها إنما تقبل هذه المحسوسات قبولاً هيولانياً، وذلك أنها تسخن وتبرد ولم تحتج إلى المتوسط بالمعنى الثاني.
فأما ما يراه ثامسطيوس ويعطيه ظاهر كلام الحكيم من أن هذه الحاسة وأن كانت تلقى محسوساتها وتماسها فإنه ليس يمكن أن تتماس وليس بينهما هواء أصلاً، كما ليس يمكن السمك ينعاش في الماء دون أن يكون بينهما ماء، ويجعل هذا حجة على أن هذه الحاسة قد تحتاج بوجه ما إلى المتوسط الذي من خارج، فيشبه أن كان الأمر على هذا ولا بد أن يكون ذلك لاحقاً لحق هذه الحاسة، لا أن ذلك أحد ما يتقوم به هذا الحس. فقد تبين ما هذه القوة وما محسوساتها وأي آلة آلتها وأنها ليست تحتاج إلى متوسط بالجهة التي تحتاج إليها الحواس الأخر.
وقد نرى مع هذا أن هذه القوة تدرك تضاداً آخر ليس منسوباً إلى المتضادات الأربعة، وهو الثقل والخفة، وليس ذلك شيئاً اكثر من أنها تدرك التحريك المضاد للقوة المحركة الموجودة في الحيوان. ولذلك تحس بالكلال والإعياء. وقد يظن أن الثقل والخفة من المحسوسات المشتركة، وذلك إنا قد نحسه بمتوسط إحساساً بالحركة، والحركة كما قيل من المحسوسات المشتركة، لكن من جهة أن سائر الحيوان وأن كانت تدرك الثقل والخفة فكثيراً ما نغلط فيه. إذ كنا نظن بالبطيء الحركة أنه ثقيل وبالسريع الحركة أنه خلاف ذلك، وربما كان الأمر بالعكس، ولذلك قد نرى أنها لها مشتركة.