فأما هل تتنزل الخيالات منزلة الموضوع لهذه القوة أو منزلة المحرك على ما هو عليه الأمر في البقايا التي في الحس المشترك من المحسوسات مع القوة المتخيلة فقد يظهر أن منزلتها منه ليست منزلة الموضوع، وذلك أن المعنى المتخيلِ هو المعنى المعقول نفسه فهو بمنزلة المحرك، إلا أنه ليس كافياً في ذلك. لأن الكلي مباين بالوجود للتخيل ولو كانت الخيالات هي المحركة له فقط لكان ضرورة من نوعها، كالحال في المحسوس والمتخيل. وسنبين هذا أكثر عند القول في العقل النظري. وهنالك نقول في وجود هذا المحرك وما هو وإذا لم تكن الخيالات هي المحركة فقط هذه. وكان أحد ما يتم به إدراك الكلي فهي بجهة ما تشبه الموضوع الكلي. إذ كانت بالاستعداد والقوة الكلي وهو مرتبط بها، وبهذا الاستعداد تباين النفس المتخيلة من الإنسان النفس المتخيلة من الحيوان كما تباين النفس الغاذية في الحيوان النفس الغاذية في النبات بالاستعداد الذي في الغاذية الحيوانية لقبول الحس، وهذا الاستعداد ليس بشيء أصلاً اكثر من التهيؤ لقبول المعقولات بخلاف الأمر في قوة الحس.
وإذا كان هذا كله كما قلنا فظاهر من أمر هذه المعقولات أنها كائنة فاسدة، وهذا مما لم يختلف أحد من المشائين فيه، وذلك أنه يظهر أن هذه الخيالات ليست موضوعة بجهة ما لهذه القوة بل كمال هذه القوة وفعلها إنما هو في أن توجد صوراً خيالية بالفكرة والاستنباط، يلزم عنها وجود الأمور الموضوعة ولو وجدت هذه المعقولات دون النفس المتخيلة لكان وجودها عبثاً وباطلاً، وهذا النوع من الصور الخيالية قد يوجد لكثير من الحيوان كالتسديس الذي يوجد للنحل والحياكة التي توجد للعناكب، لكن الفرق بينهما أنها في الإنسان حاصلة عن الفكر والاستنباط، وهي في الحيوان حاصلة عن الطبع، ولذلك لا توجد متصرفاً فيها بل إنما يدرك منها حيوان حيوان صوراً ما محدودة، وهي الضرورية في بقائه.
ومن هنا ظن قوم أن الحيوان قد يعقل وبهذه القوة يحب الإنسان ويبغض ويعاشر ويصاحب، وبالجملة عنها توجد الفضائل الشكلية. وذلك أن وجود هذه الفضائل ليست شيئاً اكثر من وجود الخيالات التي عنها تتحرك إلى هذه الأفعال على غاية الصواب، وذلك أن يشجع مثلاً في الموضع الذي يحب والوقت الذي يحب وبالمقدار الذي يحب.
وما يوجد من هذه الفضائل في الحيوان كالشجاعة في الأسد والقناعة في الديك، فهي مقولة بنوع من التشكيك مع الفضائل الإنسانية، وذلك أنها طبيعة للحيوان. ولذلك كثيراً ما يفعلها في الموضع الذي لا ينبغي، والعقل الذي يذكره أرسطو في السادسة من نيقوماخيا هو أيضاً منسوب لهذه القوة بوجه ما، فهذا هو القول في العقل العملي.
وأما القول في النظري فهو مما يستدعي بياناً أكثر، وقد اختلف فيه المشاؤون من لدن أفلاطون إلى هلم. ونحن نفحص عن ذلك بحسب طاقتنا وبحسبِ المعونة الواقعة في ذلك ممن تقدم.
فنقول أن أول ما ينبغي أن ننظر فيه من أمر هذه المعقولات النظرية هل هي دائماً فعل أم توجد أولاً بالقوة ثم توجد ثانياً بالفعل، فتكون توجد هيولانية. فإن القول بأن بعضها يوجد دائماً فعلاً وبعضها قوة قول بين السقوط بنفسه. فإن الصور ليست تنقسم بذاتها ولا بعضها موضوعة لبعض ولا يوجد هذا للصور من جهة الهيولى، أعني من جهة ما هي شخصية. وهذا بين عند من ارتاض أدنى ارتياض في هذا العلم.
والسبيل إلى ذلك كما قلنا في أول هذا الكتاب أن ننظر هل اتصالها بنا اتصال شبيه باتصال الأمور المفارقة بالمواد، كما يقال في العقل الفعال إنه يتصل بنا في حين الاستفادة، حتى تكون هذه المعقولات لا فرق بين وجودها لنا منذ الصبي وعند الكهولة في كونها موجودة بالفعل، إلا أنها كانت في الصبي مغمورة بالرطوبة.