للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فنقول إنه إذ قد تبين أن هذه المعقولات حادثة فهنالك ضرورة استعداد يتقدمها، ولما كان الاستعداد مما لا يفارق لزم أن يوجد في موضوع، وليس يمكن أن يكون هذا الموضوع جسماً حسبما تبين من أن هذه المعقولات ليست هيولانية بالوجه الذي به الصور الجسمانية هيولانية، ولا يمكن أيضاً أن يكون عقلاً، إذ كان ما هو بالقوة شيئاً ما فليس فيه شيء ما بالفعل مما هو قوي عليه.

وإذا كان ذلك كذلك فالموضوع لهذا الاستعداد ضرورة هو نفس، وليس يظهر هاهنا شيء اقرب إلى أن يكون الموضوع لهذه المعقولات من بين قوي النفس سوى الصور الخيالية، إذ كان قد تبين أنها إنما توجد مرتبطة بها وأنها توجد بوجودها وتعدم بعدمها.

فإذن الاستعداد الذي في الصور الخيالية لقبول المعقولات هو العقل الهيولاني الأول، والعقل الذي بالملكة هو المعقولات الحاصلة بالفعل فيه إذا صارت، بحيث يتصور بها الإنسان متى شاء، كالحال في المعلم إذ لم يعلم، وهو إنما يحصل بالفعل على تمامه الآخر، وبهذه الحال تحصل العلوم النظرية.

وذلك أن توجد للإنسان الذي بهذه الحال في جميع الصنايع النظرية التمامات الأربعة التي عددت في كمالات الصنايع في كتاب البرهان.

وبهذا الاستعداد الذي توجد للإنسان في الصورة الخيالية تفارق نفسه المتخيلة النفس المتخيلة من الحيوان، كما تفارق النفس الغاذية في النبات الغاذية في الحيوان بالاستعداد الذي فيها لقبول المحسوسات، لكن الفرق بينهما أن الاستعداد الذي في الصور الخيالية لقبول المعقولات هو غير مخالط للصورة الخيالية، لأنه لو كان مخالطاً لما أمكن فيه أن يقبل الصور الخيالية، كما أنه لو كانت الحاسة ذات لون لما أمكن فيها أن يقبل اللون، وهذا هو معنى قولهم إن العقل الهيولاني لو كان ذا صورة مخصوصة لما قبل الصور الخيالية هي أحرى أن تكون محركة له من أن تكون قابلة. فلذلك ما يقول الإسكندر أن العقل الهيولاني هو استعداد فقط مجرد من الصور يريد أنه ليس صورة من الصور شرطاً في قبوله المعقولات، وإنما هي شرط في وجوده فقط لا في قبوله.

ولإشكال هذا المعنى على المفسرين جعلوا العقل الهيولاني جوهراً أزلياً من طبيعة العقل، أي وجوده وجود في القوة حتى تكون نسبته إلى المعقولات نسبة الهيولى إلى الصورة، لكن ما هذا شأنه فليس أن يستكمل به في الكون جسم كائن فاسد، ولا أن يكون المتسكمل به عاقلاً به، أعني الإنسان، إذ هو كائن فاسد لكن يدخل هذا على الإسكندر في تسليمه أن الإنسان يستكمل في آخر كونه بفعل مفارق، ولذلك يستدعي الحكم بين المذهبين قول أبسط من هذا لا يحتمله هذا المختصر، فنرجع إلى حيث كنا.

[الصور بالقوة والصور بالفعل]

فنقول قد تبين من هذا القول أن هذه المعقولات فيها جزء هيولاني وجزء غير هيولاني، وتبين مع هذا ما هذه الهيولى وما ترتيبها، فلننظر ما المحرك لهذه القوة. فنقول إنه لما كانت هذه المعقولات كما تبين من أمرها توجد أولاً بالقوة ثم ثانياً بالفعل، وكان كل ما هذا شأنه مما قوامه بالطبيعة فله محرك يخرجه من القوة إلى الفعل وجب ضرورة أن يكون الأمر على هذا في هذه المعقولات، فإن القوة ليس يمكن فيها أن تصير إلى الفعل بذاتها، إذ كانت إنما هي عدم الفعل بجهة ما على ما تلخص قبل، ولما كان أيضاً المحرك إنما يعطي المتحرك شبه ما في جوهره وجب أن يكون هذا المحرك عقلاً وأن يكون مع ذلك غير هيولاني أصلاً، وذلك أن العقل الهيولاني يحتاج ضرورة في وجوده إلى أن يكون هاهنا عقل موجود بالفعل دائماً وإلا لم يوجد الهيولاني، وذلك بين مما تقدم من الأصول الطبيِعية، فإن كان ما ليس يحتاج في فعله الخاص إلى الهيولى فليس بهيولاني أصلاً.

ومن هذا يظهر أن هذا العقل الفاعل أشرف من الهيولاني وأنه في نفسه موجود بالفعل عقلاً دائماً سواء عقلناه نحن أو لم نعقله، وأن العقل فيه هو المعقول من جميع الوجوه، وهذا العقل قد تبين قبل أنه صورة وتبين هاهنا أنه فاعل، ولذلك أمكن أن يظن أن عقله. ممكن لنا بآخرة، أعني من حيث هو صورة لنا، ويكون قد حصل لنا ضرورة معقول أزلي، إذ كان في نفسه عقلاً سواء عقلناه نحن أو لم نعقله، لا إن وجوده عقلاً من جعلنا كالحال في المعقولات الهيولانية، وهذه الحال هي التي تعرف بالاتحاد والاتصال.

<<  <   >  >>