فنقول أما من يضع هذه المعقولات موجودة بالفعل دائمة وأزلية فليس لها هيولى إلا على التشبيه والتجوز، إذ كانت الهيولى هي أخص أسباب الحدوث. وذلك أن معنى الهيولى على هذا الرأي ليس يكون شيئاً أكثر من الاستعداد الحادث الذي به يمكن أن نتصور هذه المعقولات وندركها لا على أن هذا الاستعداد هو أحد ما تتقوم به هذه المعقولات إذن قبلها، كالحال في الاستعداد الهيولاني الحقيقي. ولذلك قد يمكن أن نتصور هذا الاستعداد حادثاً والمعقولات التي تقبلها أزلية على هذه الجهة، وهي الجهة التي ينبغي أن يقول بها كل من يضع هذه المعقولات موجودة دائماً ويتصل بها.
وأما ثامسطيوس وغيره من قدماء المفسرين فهم يضعون هذه القوة التي يسمونها العقل الهيولاني أزلية، ويضعون المعقولات الموجودة فيها كائنة فاسدة لكونها مرتبطة بالصور الخيالية. وأما غيرهم مما نحا نحو ابن سينا وغيره فإنهم يناقضون أنفسهم فيما يضعون وهم لا يشعرون أنهم يناقضون، وذلك أنهم يضعون مع وضعهم أن هذه المعقولات موجودة أزلية أنها حادثة وإنها ذات هيولى أزلية أيضاً.
ولست أدري ما أقول في هذا التناقض فإن ما كان بالقوة ثم وجد بالفعل فهو ضرورة حادث فاسد، اللهم إلا أن يعني بالقوة هاهنا المعنى الذي قلناه فيما تقدم وهو كون المعقولات مغمورة بالرطوبة فينا ومعوقة عن أن نتصورها لا على أنها في ذاتها معدومة اصلاً،، فيكون قولنا فيها إنها ذات هيولى بالمعنى المستعار، لكن نجدهم يرومون أن يلزموها شروط الهيولى الحقيقية وبخاصة ثامسطيوس، وذلك أنه يقول ولما كان كل ما هو بالقوة شيئاً واجباً ألا يكون فيه شيء من الفعل الذي هو قوي عليه، كالحال في الألوان والبصر، فإنه لو كان البصر ذا لون لما أمكن فيه أن تشبه بالألوان ويقبلها، إذ كان يعوقها اللون الخاص فيه. ولذلك زعم يلزم أن لا يكون في العقل الهيولاني شيء من الصور التي توجد فيه بعد بالفعل.
وأنا أقول ليت شعري هذه الهيولى الموجود فيها، هذا الاستعداد لقبول المعقولات هل يزعمون، أنها شيء ما أم لا، ولا بد لهم من ذلك، فإن نفس الإمكان والاستعداد الحادث مما يحتاج ضرورة إلى موضوع كما تلخص في الأولى من السماع، وإذا كانت شيئاً ما في ضرورة فعلاً، إذ الموضوع الذي ليس فيه شيء من الفعل أصلاً هي المادة الأولى، وليس يمكن أن تفرض المادة الأولى هي القابلة لهذه المعقولات. وإذا كانت شيئاً ما بالفعل فهي ضرورة إما جسم وإما نفس وإما عقل، إذ كان سيظهر فيما بعد أنه ليس هاهنا وجود رابع وهو ممتنع أن يكون جسماً مما تقدم من القول في أمر هذه المعقولات، وأن فرضناها نفساً فهي ضرورة كائنة فاسدة، وإذا كانت هي فاسدة فالاستعداد الموجود فيها أحرى بالفساد، وإذا لم يكن جسماً ولا نفساً فهي ضرورة عقل، وهو الذي يظهر من قولهم، لكن أن كانت عقلاً فهي بالفعل موجودة من نوع ما هي قوة عليه وهذا مستحيل، فإن القوة والفعل متناقضان.
وليس ينجي من هذا الإلزام أن نضع بعض هذه الهيولى قوة وبعضها فعلاً، فإن الصورة غير منقسمة الوجود، اللهم إلا بالعرض. أو يضع واضع أن التغير في الجوهر من باب التغير في الكمية وهذا مستحيل، فلذلك ما يلزم من يضع هذه المعقولات أزلية أن لا يضع لها الهيولى. إلا على جهة الاستعارة، فضلاً عن أن يضعها أزلية، ولا يحتاج هاهنا أيضاً إلى إدخال محرك من خارج هو من نوع المتحرك على أنه غيره.
وكأنهم إنما عرض لهم هذا الغلط. لما أرادوا الجمع بين مذهب أفلاطون وأرسطو، وذلك أنهم وجدوا أرسطو يضع أن هاهنا ثلاثة أنواع من العقول، أحدها عقل هيولاني، والثاني الذي بالملكة وهو كمال هذا الهيولاني، والثالث المخرج له من القوة إلى الفعل، وهو العقل الفعال على ما يجري الأمر عليه في سائر الأمور الطبيعية. واعتقدوا مع هذا أن هذه المعقولات أزلية راموا أن يناولوا قول أرسطو ويصرفوه إلى هذه الأمور المتناقضة، ولذلك لما تحفظ الإسكندر بأقاويله ظهر أن رأيه في ذلك مخالف لآرائهم، ونحن فلندع هذا لمن تفرغ للفحص عن مذهب أرسطو في ذلك ونرجع إلى حيث كنا.