وبالجملة فيظهر ظهوراً، أولياً أن بين هذه الكليات وخيالات أشخاصها الجزئية إضافة ما بها صارت الكليات موجودة، إذ كان الكلي إنما الوجود له من حيث هو كلي بما له جزئي، كما أن الأب إنما هو أب من حيث له ابن، واتفق لهما مع أن كانا من المضاف أن كانت أسماؤهما تدل عليهما من حيت هما مضافان، ومن خواص المضافين كما قيل في غير ما موضع أن يوجدا. معاً بالقوة أو بالفعل، ومتى وجد أحدهما وجد الآخر، ومتى فسد أحدهما فسد الآخر، وذلك ظاهر بالتأمل فإن الأب إنما هو أب بالفعل ما كان له ابن موجود، وكذلك الابن بما هو ابن ما كان له أب، وإنما كان يمكن أن لا تستند هذه الكليات إلى موضوعاتها لو كانت موجودة بالفعل خارج النفس، على ما كان يراه أفلاطون، وهو من البين أن هذه الكليات ليس لها وجود خارج النفس مما قلناه، وأن الوجود منها خارج النفس إنما هو أشخاصها فقط.
وقد عدد أرسطو فيما بعد الطبيعة المحالات اللازمة عن هذا الوضع وباستناد هذه الكليات إلى خيالات أشخاصها صارت متكثرة بتكثرها، وصار معقول الإنسان مثلاً عندي غير معقول عند أرسطو. فإن معقولة عندي إنما أشد إلى خيالات أشخاص غير الأشخاص التي استند إلى خيالاتها معقولة عند أرسطو، وباتصال هذه المعقولات بالصور الخيالية اتصالاً ذاتياً يلحقها النسيان لذهاب الصور الخيالية، ويلحقنا نحن عندما نفكر بها الكلال ويختل إدراك من فسد تخيله. وبالجملة فمن هذه الجهة تلحق المعقولات الأمور التي ترى بها أنها هيولانية لا المحاطة التي يزعم من يقول بوجودها فعلاً دائماً، فإن هذا القول إنما شأنه أن يفيد من التصور في إعطاء سبب هذه اللواحق المقدار الذي تفيده الأقاويل الشعرية.
وأيضاً لو أنزلنا هذه الكليات غير متكاثرة بتكثر خيالات أشخاصها المحسوسة للزم عن ذلك أمور شنيعة، منها أن يكون كل معقول حاصل عندي حاصلاً عندك حتى يكون متى تعلمت أنا شيئاً ما تعلمته أنت ومتى نسيته أنا نسيته أنت أيضاً، بل ما كان يكون هاهنا تعلم أصلاً ولا نسيان وكانت تكون علوم أرسطو كلها موجودة بالفعل لم يقرأ كتبه بعد، وهذا كله ظاهر بنفسه والتطويل فيه عناء.
فقد تبين من هذا القول أن هذه المعقولات تابعة لتغير وإنها متكثرة بتكثر موضوعاتها، لكن على غير الجهة التي تتكثر بها الصور الشخصية، وتبين أنها ذات هيولى وإنها حادثة فاسدة لكن من جهة أنها هيولانية ومشار إليها قد يلزم ضرورة أن تكون مركبة من شيء يجري منها مجرى المادة وشيء يجري منها مجرى الصورة. فأما الشيء الذي يجري منها مجرى الصورة فإنه إذا تؤمل ظهر منه أنه غير كاين ولا فاسد وذلك بين بمقدمات.
إحداها: أن كل صورة معقولة فهي إما هيولانية وإما غير هيولانية.
والثانية: أن كل صورة هيولانية فإنما هي معقولات بالفعل إذا عقلت، وإلا فهي معقولة بالقوة.
والثالثة: أن كل صورة غير هيولانية فهي عقل سواء عقلت أو لم تعقل.
والرابعة والخامسة: عكس هاتين المقدمتين، وهي أن كل صورة تكوِن معقولة بأن تعقل فهي هيولانية وأن كل صورة تكون في نفسها عقلاً وإن لم تعقل فهي غير هيولانية.
فإذا تقررت لنا هذه المقدمات وهي بينة من طبيعة العقل والمعقول، قلنا هذه الصورة التي هي صورة المعقولات النظرية واجب أن تكون غير هيولانية، لأنها عقل في نفسها سواء عقلناها نحن أو لم نعقلها. إذ كانت صورة الشيء هبر في وجوده عقل ولو أنزلناها معقولة بالفعل من جهة وبالقوة من جهة يلزم أن يكون هنالك عقل آخر متكون فاسد، وهو الشيء الذي صارت به معقولة بالفعل بعد أن كانت بالقوة، فيعود السؤال أيضاً في هذا العقل هل هو معقول بالفعل من جهة وبالقوة من جهة، فإن فرضناه كذلك لزم أن يكون هنالك عقل ثالث، فيعود السؤال أيضاً في هذا العقل الثالث. ولذلك ما يجب أن يكون المعقول من العقلي الذي بالفعل هو الموجود منه نفسه لا غير الموجود، كالحال في الصور الهيولانية التي هي معقولة بالقوة، وإلا وجدت عقول إنسانية غير متناهية.
فأما أن تصورها ممكن فذلك سيبين من قولنا بعد، فمن هنا يظهر أن في المعقولات جزءاً فانياً وجزءاً باقياً، ولذلك اضطرب نظر الناظرين فيها.
وإذ قد تبين أن في المعقولات جزءاً باقياً وجزءاً فانياً وكان كل كاين له هيولى فلننظر ما جوهر هذه الهيولى وأي رتبة رتبتها.