ومنها أن العقل يتزيد مع الشيخوخة وسائر قوى النفس بخلاف ذلك. وأكثر هذه الأحوال الخاصة بالمعقولات إذا تؤملت ظهر أن السبب في وجودها كون المعقولات عامة النسبة الشخصية التي توجد لسائر قوى النفس، وهي أن لا تكون للمعقول، منها في غاية المقابلة للموجود على ما عليه الأمر في الصور الشخصية، ولهذا متى استعملنا هذه الخواص دلائل لم تفض بنا إلى أكثر من هذه المعرفة. وأما متى أردنا أن نجعلها دلائل على وجود هذه المعقولات فعلاً محضاً ودائماً كنا قد استعملنا في ذلك المطلوب المتأخرات التي ليس يلزم عن وجودها وجود المتقدم، بمنزلة من قال أن الكواكب نار لأنها مضيئة. وذلك أن كل ما هو بالفعل دائماً قد عدم صورة النسبة الشخصية التي توجد لسائر قوى النفس، وليس ينعكس هذا حتى يلزم أن كل ما عدم هذه النسبة فهو موجود بإلفعل، وذلك بين لمن زاول صناعة المنطق.
فإذن الذي غلط من قال من هذه الأشياء بمفارقة المعقولات هو موضع اللاحق.
وإذا كان هذا هكذا وظهر أنه ليس في هذه الأمور الخاصة بالمعقولات ما تبين بها أنها موجودة دائماً فعلاً فلننظر هل تلحقها الأمور الخاصة بالصور الهيولانية بإطلاق أم لا، وقد قلنا أن ذلك شينان: أحدهما أن يكون وجود الصور تابعاً لتغير بالذات وبذلك تكون حادثة، والثاني أن تكون متكثرة بتكثر الموضوعات تكثراً ذاتياً لا تكثراً عرضياً، بل ما يتوهمه أصحاب التناسخ بأي وجه اتفق مات أوجه التكثر.
فنقول إنه إذا تؤمل كيف حصول هذه المعقولات لنا وبحاصة المعقولات التي تلتئم منها المقدمات التجربية ظهر أنا مضطرون في حصولها لها أن نحس أولاً ثم نتخيل، وحينئذ يمكننا أخذ الكلي. ولذلك من فاتته حاسة ما من الحواس فاته معقول ما. فإن الأكمه ليس يدرك معقول اللون أبداً، ولا يمكن فيه إدراكه، وأيضاً فإن من لم يحس أشخاص نوع ما لم يكن عنده معقولة، كالحال عندنا في الفيل. وليس هذا فقط بل يحتاج مع هاتين القوتين إلى قوة الحفظ وتكرر ذلك الإحساس مرة بعد مرة حتى ينقدح لنا الكلي. ولهذا صارت هذه المعقولات إنما تحصل لنا في زمان، وكذلك يشبه أن يكون الحال في الجنس الآخر من المعقولات التي لا ندري متى حصلت ولا كيف حصلت إلا أن تلك لما كانت أشخاصها مدركة لنا من أول الأمر لم نذكر متى اعترتنا فيها هذه الحال التي تعترينا في التجربية، وهذا ظاهر بنفسه. فإن هذه المعقولات ليست جنساً آخر من المعقولات مباين للتجربية، ولذلك ما يجب أن يكون حصولها بجهة واحدة.
وبالجملة فيظهر أن وجود هذه المعقولات تابعة للتغير الموجود في الحس والتخيل تباعداً ذاتياً على جهة ما تتبع الصور الهيولانية التغيرات المتقدمة عليها، وإلا أمكن أن نعقل أشياء كثيرة من غير أن نحسها، فكأن يكون التعلم تذكراً كما يقول أفلاطون.
وذلك أن هذه المعقولات متى فرضناها موجودة بالفعل دائماً، ونحن على الكمال الأخير من الاستعداد لقبولها، وذلك مثلاً في الكهولة، فما بالنا ليت شعري إلا يكون في تصور دائماً وتكون الأشياء كلها لنا معلومة بعلم أولي.
وغاية ما نقول في ذلك متى فأتنا منها معقول ما ثم أدركناه أن إدراكه تذكر لا حصول معرفة، لم تكن قبل بالفعل لنا حتى يكون تعلم الحكمة عبثاً، وهذا كله بين السقوط بنفسه، ولذا كان وجود هذه المعقولات تابعاً لتغير بالذات فهي ضرورة ذات هيولى، وموجودة أولاً بالقوة وثانياً بالفعل، وحادثة فاسدة، إذ كل حادث فاسد على ما تبين في آخر الأولى من السماء والعالم.
وقد يظهر أيضاً أنها متكثرة بتكثر الموضوعات ومتعددة بتعددها، وهو الأمر الأخر الذي تخص الصور الهيولانية بما هي هيولانية من أن هذه المعقولات إنما الوجود لها من حيث نستند إلى موضوعاتها خارج النفس، ولذلك ما كان هنا صادقاً كان له موضوع خارج النفس يستند كلية إلى صورته المتخيلة، وما لم يكن له موضوع كغزايل وعنقا مغرب كان كاذباً بالكون الصور المتخيلة منه كاذبة.