فنقول أن الأمور المحسوسة منها قريبة، ومنها بعيدة، والقريبة معدودة فيها بالذات، والبعيدة معدودة فيها بالعرض، والذي بالذات منها ما هي خاصة بحاسة حاسة ومنها مشتركة لأكثر من حاسة واحدة، فالخاصة هي مثل الألوان للبصر، والأصوات للسمع والطعوم للذوق، والرائحة للشم، والحرارة والبرودة للمس، وأما المشتركة لأكثر من خاصة واحدة فالحركة والسكون والعدد والشكل والمقدار.
أما الحركة والعدد فيدركهما جميع الحواس الخمس وذلك بين بن أمرهما٠ وأما الشكل والمقدار فمشتركان للبصر واللمس فقط، والغلط إنما يقع أكثر ذلك للحواس في هذه المحسوسات المشتركة كمن يخيل إليه حين يسير في النهر أن الشطوط تتحرك، وأما المحسوسات بالعرض فمثل أن يحس أن هذا حي وهذا ميت، وهذا زيد وهذا عمرو، وهذه المحسوسات الغلط فيها أكثر منه في المشتركة، ولذلك قد يحتاج في تميزها أن يستعمل في ذلك اكثر من حاسة واحدة كما يستعمل ذلك الأطباء فيمن به انطباق العروق، فإنهم قد يقصدونه مرة ومرة يجعلون مرآة عند أنفه ليظهر لهم فيها أثر التنفس.
وإذ قد تبين ما هي المحسوسات الخاصة والمشتركة فلنبدأ أولاً بالقول في القوى التي تخص محسوساً محسوساً من المحسوسات الخاصة ثم نسير ذلك إلى القول في القوة التي محسوساتها مشتركة، وهي المعروفة بالحس المشترك، ولنبدأ على عادتهم من القول في البصر.
[الحواس الخمس]
[القول في قوة البصر]
وهذه القوة هي التي من شانها أن تقبل معاني الألوان مجردة عن الهيولى من جهة ما هيِ معان شخصية، وذلك بين مما تقدم إذ كانت تدرك المتضادين معاً كما قلنا.
والذي بقي علينا من أمرها أن نبين كيف يكون هذا القبول وبأي شيء يكون، وبالجملة جميع الأشياء التي تتقوم هذا الإدراك فنقول لما كانت المحسوسات بعضها مماسة للحواس وملاقية لها كمحسوسات اللمس والذوق، وبعضها غير ملاقية ولا مماسة كالبصر والسمع والشم، وكانت المحسوسات هي المحركة للحواس والمخرجة لها من القوة إلى الفعل، والمحرك كما تبين إذا كان محركاً قريباً فإنما يحرك بأن يماس المحرك، وأن كان بعيداً فإنما يحركه بتوسط جسم آخر،، إما واحد وإما أكثر من واحد، وذلك بأن يحرك هو الذي يليه ثم يحرك ذلك الأخر الذي يليه إلى أن ينتهي التحريك إلى الأخير.
وأعني هاهنا بالتحريك التغير على العموم سواء كان في زمان أو لم يكن، كالحال في هذا التغير، فبالواجب ما احتاجت هذه الحواس الثلاث إلى متوسط به يكون قبولها للمحسوسات وليس بأية حالة اتفقت حتى يكون هو المتوسط، بل يلزم ضرورة أن يكون بحال يمكنه بها أن يقبل التحريك عن المحسوسات حتى تؤديه إلى الحواس، وليست هذه الحال شيئاً أكثر من أن يكون في نفسه عادماً لهذه المعاني التي يقبلها عن المحسوسات، حتى يكون لا لون له ولا رائحة وبكون قبوله لها بوجه مناسب لقبول الحاسة، أعني أن لا يكون قبوله هيولانياً بل بضرب من التوسط بين الهيولاني والروحاني، وهذا أيضاً أحد ما اضطر إلى وجود المتوسط، فإن الطبيعة إنما تفعل بتدريج، ولذلك كانت هذه المحسوسات إذا ألقيت على آلة الحس لم تدرك، وهذه حال الماء والهواء اللذين تدرك بتوسطهما هذه المحسوسات. فقد ظهر من هذا القول ضرورة احتياج هذه الثلاث الحواس إلى المتوسط، وبأي صفة ينبغي أن يكون على العموم، وإنه ليس يمكن أن يكون إبصار ولا واحد من هذه الإدراكات بانخلاء على ما كان يرى كثير ممن سلف من القدماء.
وينبغي أن نرجع إلى ما يخص الأبصار فنقول أن الجسم الذي شأنه أن يقبل اللون من جهة ما هو غير ذي لون هو جسم المشف من جهة ما هو مشف، وهذا القبول ضربان: إما قبول هيولاني. كالحال في الألوان في هيولاها، وإما قبول متوسط بين الهيولاني والروحاني كالحال في ارتسام الألوان في الهواء والماء. وهذا النحو من القبول هي الجهة التي بها يخدم هذان الأسطقسان الإبصار فقط. ولهذا السبب بعينه ما كانت آلة هذا الإدراك وهي العين الغالب على أجزائها الماء والهواء، لكن هذه الأجسام المشفة يظهر من أمرها أنها إنما تقبل الألوان حين هي مشفة بالفعل أي مستضيئة، ولذلك لا يمكن أن يبصر في الظلام وإنما تكون مشفة بالفعل عند حضور المضيء.