وبين من هذا أن هذه القوة، أعني الكمال الأول للحس مباينة بالرتبة لتلك القوى التي تقدمت. إذ كان الموضوع لها نفس ما، ولذلك ما كان قبول هذه القوة كمالها الأخير عن المحرك لها ليس من جنس قبول القوى الهيولانية التي عددنا كمالاتها عن المحركين لها. فإن المحرك هنالك إنما يعطي الهيولى صورة شبيهة بالصورة الموجودة فيه وعلى الحال التي توجد فيه، ومثال ذلك أن النار إذا كونت ناراً أخرى وصيرتها بالفعل، فإنما يعطي ذلك الموضوع صورة شبيهة بصورتها ويكون حال وجودها في الهيولى هي هي بعينها حال وجود الصورة الفاعلة في هيولاها.
وأما قوة الحس فليمس الأمر فيها كذلك فإنه ليس موجود اللون مثلاً في هذه القوة هو بعينه وجوده خارج النفس، فإن وجوده في هيولاه خارج النفس وجود هو به منقسم بانقسام الهيولى.
وأما وجوده في القوة الحساسة فليس بمنقسم أصلاً بانقسام هيولاه، ولذلك أمكن أن يستكمل بالجسم الكبير جداً والصغير على حالة واحدة وبموضوع واحد، حتى يكون مثلاً الرطوبة الجليدية على صغرها تقبل نصف كرة الفلك وتؤديه إلى هذه القوة، كما تقبل صورة الجسم الصغير جداً ولو كان هذا الاستكمال منقسماً بانقسام الهيولى لم يكن ذلك فيه.
وأيضاً فإنا نجد هذه الصورة تستكمل بالمتضادين معاً في موضوع واحد، فنحكم عليهما كالقوة المبصرة التي تدرك السواد والبياض معاً. ولذلك يصير للمحسوسات بهذه القوة وجود أشرف مما كان لها في هيولاها خارج النفس. فإن معنى هذا الاستكمال ليس شيئاً غير وجود معنى المحسوسات مجرداً من هيولاه، لكن بوجه ما له نسبة شخصية إلى هيولى بها صار معنى شخصياً. وإلا كان عقلاً على ما سنبين بعد عند القول في القوة الناطقة، وهذا أول مرتبة من مراتب تجرد الصور الهيولانية فيه. فهذه القوة إذن هي القوة التي من شأنها أن يستكمل بمعاني الأمور المحسوسة، أعني القوة الحسية من جهة ما هي معان شخصية.
وبين مما قلنا أن مثل هذه الصورة الحسية كائنة فاسدة، إذ كانت توجد بالقوة تارة وبالفعل تارة، وما بالقوة من جهة ما هو بالقوة فهو حادث ضرورة، إذ كانت القوة هي أخص أسباب الحدوث. وأيضاً لو كانت أزلية لكان مثلاً هذا اللون موجوداً قبل وجوده فتكون الأعراض مفارقة، ولم يكن للمحسوسات غناء في الإدراك حتى كان يكون الإحساس في غيبتها وحضورها بحال واحدة، وهذا كله شنيع. وأيضاً فهي بوجه ما تستعمل آلة جسمانية إذ كان الموضوع الأول لها، أعني النفس الغاذية صورة في مادة ولذلك يلحقها الكلال ولا تتم فعلها إلا بأعضاء محدودة، فإن الإبصار إنما يكون بالعين والسمع بالأذن.
[قوى النفس الحساسة]
وإذا قلنا ما هي النفس الحساسة بإطلاق فقد ينبغي بعد هذا أن نصير إلى القول في واحدة واحدة من قواها. فنقول أن أقدم هذه القوى وجوداً بالزمان هي قوة اللمس ولذلك قد توجد هذه القوة معراة عن سائر الحواس، كما يوجد ذلك في الإسفنج البحري وغير ذلك مما هو متوسط الوجود بين النبات والحيوان، ولا توجد سائر القوى معراة منها وإنما كان ذلك كذلك لأن هذه القوة أكثر ضرورية في وجود الحيوان من سائر قوى الحس، إذ لولا هي لكانت ستفسده الأشياء التي من خارج وبخاصة عند النقلة.
ثم من بعد هذه القوة قوة الذوق فإنها أيضاً لمس ما، وأيضاً فإنها القوة التي بها يختار الحيوان الملائم من الغذاء من غير الملائم.
ثم قوة الشم أيضاً إذ كانت هذه القوة أكثر ما يستعملها الحيوان في الاستدلال على الغذاء كالحال في النمل والنحل، وبالجملة فهذه الثلاث القوى هي القوى الضرورية أكثر ذلك في وجود الحيوان.
وأما قوة السمع والإبصار فموجودة في الحيوان من أجل الأفضل لا من اجل الضرورة، ولذلك كان الحيوان المعروف بالخلد لا بصر له.
ويجب قبل أن نشرع في القول في هذه الحواس أن نقدم من أمر المحسوسات ما يتوصل به إلى القول في واحدة واحدة من هذه القوى. فإنا، إنما نسير أكثر ذلك في هذا العلم كما قيل غير ما مرة من الأعرف عندنا إلى الأعرف عند الطباع.