وأيضاً لو أنزلنا هذه الصورة غير هيولانية لم يكن حدوثها في الشيء يوجب مزيد استعداد لقبول صورة أخرى، ولا كانت بعضها كمالات لبعض، وبعضها موضوعات لبعض على جهة ما نقول أن الغاذية موضوعة للحساسة والحساسة كمال لها، فإن الصورة بما هي صورة ليس فيها من الاستعداد والقوة، إذ كان وجودها الذي يخصها إنما هو لها من جهة الفعل والفعل والقوة متناقضتان، وإنما أمكن أن توجد فيها القوة بضرب من العرض، وذلك لكونها هيولانية، وهذه كلها استظهارات تستعمل مع من ينكر وجود هذا لا على أنها براهين تتبين بها مجهول بمعلوم.
ومن شأن هذا النوع من الأقوال أن يستعمل في علم ما بعد الطبيعة، إذ كانت تلك الصناعة هي الصناعة التي تتكفل نصرة ما تضعه الصنايع الجزئية مبادئ وموضوعات، وإذا كان موضوعاً لصاحب هذا العلم أن اكثر الصور هيولانية وأن ذلك بين من أمرها، فالذي يفحص عنه صاحب هذا العلم إما هو الصورة المشكوك في أمرها هل هي متقومة بالهيولى أم ليست متقومة. والسبيل التي منها يمكن أن تكتسب المقدمات الخاصة المناسبة بهذا النظر في هذا العلم، فهي أن تحصى جميع المحمولات التي تلحق الصور الهيولانية بما هي هيولانية، إذ كان وجودها في الهيولى ليس بنحو واحد على ما ظهر فيما تقدم، وسيظهر في هذا الكتاب.
ثم يتأمل جميعها مثلاً في النفس الناطقة إذ كانت التي يظن بها من بين قوى النفس أنها تفارق، فإن ألفيناها متصفة بواحد منها تبين أنها غير مفارقة، وكذلك تتصفح المحمولات الذاتية التي تخص الصور بما هي، صور لا بما هي صور هيولانية، فإن الفي لها محمول خاص تبين انها مفارقة، كما يقول أرسطو أنه أن وجد للنفس أو لجزء من أجزائها فعل ما يخصها أمكن أن تفارق. فهذه هي الجهة التي يمكن أن ننظر منها في ذلك، فليكن هذا عندنا عتيداً حتى نصل إلى الموضع الذي يمكن فيه أن نفحص من هذا المطلوب. فإن هذا الفحص إنما يترتب في جزء جزء من أجزاء النفس بعد المعرفة بجو هره، إذ كان علم ذات الشيء متقدماً على لواحقه، فلنبدأ من حيث بدا.
[تعريف النفس]
فنقول إنه يظهر من قرب عما وضع في القول المتقدم أن النفس صورة لجسم طبيعي آلي، وذلك أنه إذا كان كل جسم مركب من مادة وصورة، وكان الذي بهذه الصفة في الحيوان هو النفس والبدن، وكان ظاهراً من أمر النفس أنها ليست بمادة للجسم الطبيعي، فبين أنها صورة ولا الصورة الطبيعية هي كمالات أول للأجسام التي هي صور لها، فبالواجب ما قيل في حد النفس أنها استكمال أول الجسم طبيعي آلي، وإنما قيل أول تحفظاً من الاستكمالات الأخيرة التي هي في الأفعال والانفعالات، فإن مثل هذه استكمالات تابعة للاستكمالات الأول، إذ كانت صادرة عنها إلا أن هذا الحد لما كان مما يظهر انه يقال بتشكيك على جميع قوى النفس، وذلك أن قولنا في الغاذية أنها استكمال غير معنى قولنا ذلك في الحساسة والمتخيلة، وأحرى ما قيل ذلك باشتراك على القوة الناطقة، وكذلك سائر أجزاء الحد لم تكن كفاية في تعرف جو هر كل جزء من أجزائها من هذا الحد على التمام، حتى نعرف ما هذا الاستكمال الموجود في النفس الغاذية وفي واحدة واحدة منها وهذه النفس يظهر بالحس من أفعالها أن أجناسها خمسة: أولها في التقديم بالزمان وهو التقدم الهيولاني والنفس النباتية ثم الحساسة، ثم المتخيلة، ثم الناطقة، ثم النزوعية، وهي كاللاحق لهاتين القوتين، أعني المتخيلة والحساسة، وأن الحساسة خمس قوى: قوة البصر، وقوة السمع، وقوة الشم، وقوة الذوق، وقوة اللمس، وسنبين بآخره أن عددها هذا العدد ضرورة، وأنه لا يمكن أن توجد قوة أخرى من قوى الحس غير هذه وليس هذه القوى يوجد لها التباين من جهة أفعالها فقط، بل ولأن بعضها قد يفارق بعضاً بالموضوع، وذلك أن النباتية قد توجد في النبات دون الحساسة، والحساسة من دون المتخيلة في كثير من الحيوان كالذباب وغيره، وأن كان ليس يوجد الأمر فيها بالعكس، أعني أن توجد الحساسة من دون الغاذية أو المتخيلة من دون الحساسة.