احترام السماع صيانته وحفظه من كل موضوع، ومن احترامه تحري حال المسموع منه، فلا يدس فيه كلام الذين فسدت لغتهم من أعراب الحطمية وأشياخ قطربل، ومن احترامه ألا نساوي بين القليل النادر والأكثر الشائع فنغمط حق هذا الأخير, وإن حشرنا فيه الضعيف والشاذ والخطأ مما يقع فيه أعراب السواد، والشعر المصنوع مما دسه حماد وخلف الكوفيان؛ خفر لذمته ونقض لعهده١.
الحق أن البصريين عنوا بالسماع فحرروه وضبطوه "واحترموه", على حين زيفه الكوفيون وبلبلوه، والأمر في القياس على هذه الوتيرة، نظمه وحرر قواعده وأحسن تطبيقه البصريون، على حين هو في يد الكوفيين مشوش غير واضح المعالم ولا منسجم في أجزائه، ولا مطرد. بل نجد فيه ظاهرة غريبة جدا، وهي إطلاقهم -وهم المتقيدون بالسماع- الاشتقاق فيما لم يسمع عن العرب، فقد ذهبوا إلى قياس مفعل وفعال على نحو مثنى وثلاث من خمسة إلى تسعة على حين لم يسمع عن العرب ذلك إلا من واحد إلى أربعة، والبصريون أنفسهم -وهم القياسيون- منعوه "إلا المبرد منهم" لعدم السماع، ولأن يكون ذلك من البصريين أحرى إذ هو بمذهبهم أشبه وعن مذهب الكوفيين أبعد. وهذا يؤكد لك ما ذهبت إليه من أنه مذهب غير منسجم الأجزاء.
أميل إذًا إلى أن المذهب الكوفي لا هو مذهب سماع صحيح, ولا
١ كان يونس بن حبيب يقول: إن لم يكن بزرج النحوي "الكوفي" أروى الناس فهو "أكذب الناس" كان كذابا، وكثيرا ما يحدث بالشيء عن رجل ثم عن غيره. انظر ترجمته في الفهرست وفي إنباه الرواة.