للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

يسودها النظام والمنطق، ويميتوا كل أسباب الفوضى من رواية ضعيفة أو موضوعة أو قول لا يتمشى مع المنطق, والكوفيون يريدون أن يضعوا قواعد للموجود حتى الشاذ، من غير أن يهملوا شيئا حتى الموضوع"١.

وبهذا لا يكون من الدقة -في رأيي- إطلاق النزعة السماعية على المذهب الكوفي, والنزعة القياسية على المذهب البصري. والدقة التي يؤيدها التاريخ والإمعان فيه وفي أقوال الكوفيين والبصريين ألا يكون مذهب بصري يقابله مذهب كوفي, بل نزعة سماعية يقابلها نزعة قياسية يختلف حظ كل منهما صحة وحالا ومقدارا بين البلدين، بل بين نحاة كل بلد على حدة. على ذلك الأساس يصح أن نعيد النظر في النحو وتاريخه ورجاله بهذا التصنيف الجديد، بعد أن علمنا أن النزعتين تتمثلان على حقهما بالبصرة لا بالكوفة.

وبعد, فهذه أحكام تقريبية لا مطردة، إذ إن في المذهب الكوفي مسائل جيدات تختار على مثيلاتها في المذهب البصري، كإعمالهم مثلا اسم المصدر عمل المصدر، فحكمهم في ذلك صحيح واضح تؤيده روح القواعد والمنطق، وشاهداهم عليه صحيحان قويان٢


١ ضحى الإسلام ٢/ ٢٩٦.
هذا وللقاضي الجرجاني في كتابه "الوساطة" الذي ألفه للدفاع عن المتنبي الكوفي والحكم بينه وبين خصومه، حكم يسرني إثباته له؛ لما فيه من توضيح الأمر هنا على رغم سوقه مساق الدفاع عن الكوفيين, قال:
ولأهل الكوفة رخص لا تكاد توجد لغيرهم من النحويين, غير أنهم لا يبلغون بها مرتبة "الإهمال" للقواعد العامة. انظر الوساطة ص٤٦٦.
٢ قول القطامي يمدح زفر بن الحارث الكلابي:
أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا
والحديث الشريف: "من قبلة الرجل امرأته الوضوء".
ففزع البصريون في رد القاعدة إلى أن الحديث مروي بالمعنى، وإلى أن البيت فيه ضرورة. لكن الزمن حكم للكوفيين فصحت قاعدتهم وسار عليها الناس, وقبلها النحاة حتى يومنا هذا. ونحو من هذا: القاعدة التي وضعها البصريون في وجوب إعادة الجار قبل المعطوف على المجرور ولم يلتزم العرب ذلك.

<<  <   >  >>