للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتعليقاتهم وما حشدوا فيها من عُقَد وألغاز؛ فقد تحولت العبارات نفسها إلى أحاج مغلقة، وأصبح هَمُّ العلماء أن يحلوا هذه الأحاجي، وحلها لا يضيف علمًا؛ إنما يضيف فسادًا لغويًّا.

وانقطعت الصلة بينهم وبين الكتب العلمية الأولى التي أُلِّفَتْ في العصر العباسي؛ بل التي ألفت في العصر القريب منهم عصر المماليك، فكنت قلما تجد من يعرف شيئًا عن كتب الأئمة مثل الشافعي، أو الفلاسفة مثل الفارابي، أو المفكرين الاجتماعيين مثل ابن خلدون.

لم تعد العلوم شيئًا سوى متون مثل متن المنهج للشيخ زكريا الأنصاري الذي جَمَعَ فيه كل مسائل الفقه الشافعي، وكان الأزهريون إلى قريب من عصرنا يحفظون ما يسمى مجموع المتون، وهو مجموع يُحصي كل أنواع العلم العربي ويحيله جُمَلًا مبهمة في شعر أو نثر للحفظ والتسميع. وكأن العلماء شعروا أنه لم يعد هناك شيء يقال، فهَمُّ الواحد منهم أن يتناول المتن الذي لُخِّص فيه العلم -أو بعبارة أدق: لُغِّز- ليحله، وقد يكتب في الحل شرحًا مبهمًا، ليس في كثير من الأمر خيرًا من المتن، فيعمد عالم آخر إلى حل الشرح بشرح ثانٍ يسمونه حاشية، ويتبين عالم ثالث أو رابع أن شرح الشرح ليس كافيًا فيعمد إلى التعليق عليه بما يسمى تقريرًا.

وبهذا أصبح العلم العربي الذي كان يملأ المجلدات الضخمة شيئًا ضئيلًا جدًّا لا يتجاوز صفحات معدودة، وران على الحياة العقلية ضَرْبٌ من الجمود الشديد، وأصبح لا بد من هزة عنيفة لتعيد إلى ينابيع حياتنا العقلية دوراتها الأولى.

ولم تكن حياتنا الأدبية خيرًا من حياتنا العقلية؛ فقد وقف النشاط الذي كنا نراه في عصر المماليك وقبله، والذي كان يتيح لنا بعض الأزهار الفنية، فنجد عندها بعض المتاع وبعض الراحة؛ إذ لم تعد مصر تحت تأثير العثمانيين وما أشاعوا فيها من فساد في النظم السياسية والاجتماعية صالحة لأن تخرج أزهارًا أو ما يشبه الأزهار، فقد غلوها وغلوا أدباءها، وحالوا بينهم وبين حرياتهم الفردية، كما حالوا بينهم وبين الرخاء المادي؛ فانهارت حياتهم، أو بعبارة أخرى:

<<  <   >  >>