للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

انهارت حياتنا الأدبية كما انهارت حياتنا العقلية، وأصبحتَ لا تجد كاتبًا ولا شاعرًا تستطيع أن تقرأ له شيئا يلذ عقلك أو يلذ روحك. وعلى نحو ما أصبحت حياتنا العقلية تلخيصًا للتراث الماضي، وإفسادًا له، أصبحت كذلك حياتنا الأدبية تلخيصًا؛ بل تقليدًا مملًّا لبعض القصائد القديمة، يحاكيها الشعراء ويتناولونها بالتخميس والتسبيع أو التشطير، ولا يضيفون إلى ذلك إلا عُقدًا من البديع المتكلَّف الممقوت، وكأن الغرض من القصيدة تطبيق أنواع البديع لا أكثر ولا أقل. ومن المستحيل أن تجد في أثناء ذلك عاطفة أو شعورًا حقيقيًّا. وبالمثل أصبحت الكتابة شيئًا سقيمًا، أصبحت سجعًا ولكنه سجع ضعيف ركيك، لا يؤدي شيئًا سوى ألوان البيان والبديع المعقدة.

وفي هذا الوقت الذي قُضِيَ فيه على حياتنا العقلية والأدبية بالخمود والركود، قُضِيَ على أوربا أو قُدِّر لها حياة عقلية وأدبية نشيطة، وهي حياة تناولت مناحي الفكر الإنساني جميعه من علم وفلسفة وأدب.

واستعانت أوربا أول الأمر بالتراث اليوناني، فتطورت حياتها الفكرية تحت تأثير هذا التراث الوثني القديم، ونشأ حينئذ صراع هائل بين الأدبين: المسيحي والوثني، وظهرت حركات البروتستانت، وأخذت أوربا طريقها إلى إحداث آدابها الحديثة. وعلى نحو ما كشفت الآثار اليونانية والرومانية كشفت أمريكا، وأخذت في استغلالها على نحو ما استغلت تلك الآثار.

وأخذت تندفع في حركتها العلمية، وتكتشف القوانين الطبيعية وغير الطبيعية التي تسيطر على الحياة والناس، مستشعرة ضروبًا واسعة من الحرية العقلية. وكان من أهم مميزات هذه الحرية نقد كل شيء من دين وغير دين. وقد نقدوا الفلسفة القديمة، وأسسوا لأنفسهم فلسفة حديثة أقامها لهم ديكارت على أسس علمية، ثم تطوروا بها نحو التجريد ونحو الطبيعة والعلم الوضعي؛ بل نحو الإنسانية بمعناها الواسع. وكل ذلك دون أن يقطعوا صلتهم بفلسفة اليونان وتشريع الرومان.

وعلى نحو ما تطوروا بحياتهم العقلية تطوروا بحياتهم الأدبية، فاستحدثوا

<<  <   >  >>