يمضي فيصف المحكمة الشرعية حين وصلها عيسى بن هشام مع صاحبه على هذا النمط:
"ولما وصلنا إلى هذه المحكمة وجدنا ساحتها مزدحمة بالمركبات، تجرها الجياد الصاهلات، وبجانبها الراقصات من البغال والحمير، عليها سُرُج الفضة والحرير، فحسبناها مراكب للعظماء والأمراء، في بعض مواكب الزينة والبهاء، وسألنا: لمن هذي الركاب؟ فقيل لنا: إنها لجماعة الكُتَّاب، فقلنا: سبحان الملك الوهاب، ومن يرزق بغير حساب. ونحونا نَحْوَ الباب، في تلك الرحاب، فوجدنا عليه شبحًا حنتْ ظهرَه السنون، فتخطته رسل المنون، قد اجتمع عليه العمش والصمم، ولَجَّ به الخرف والسقم. وعلمنا أنه حارس بيت القضاء، من نوازل القضاء. ثم صعدنا في السلم فوجدناه مزدحمًا بأناس، مختلفي الأشكال والأجناس، يتسابُّون ويتشاتمون، ويتلاكمون ويتلاطمون، ويُبرقون ويُرعدون، ويتهددون ويتوعدون، وأكثرهم آخذ بعضهم بتلابيب بعض، يتصادمون بالحيطان ويتساقطون على الأرض. وما زلنا نزاحم على الصعود في الدَّرَج، والعمائم تتساقط فوقنا وتتدحرج، حتى منَّ الله علينا بالفرج، ويسر لنا المخرج، في وسط الجمع المتلاصق، والمأزق المتضايق".
وواضح أن هذا الوصف يعتمد إلى حد ما على محاولة الإغراب باللفظ الفصيح والسجع، وكأن المويلحي يحتال للمواقف، حتى يعرض مهارته البيانية على طريقة بديع الزمان والحريري في مقاماتهما، وله في ذلك طرائف كأن يصف روضًا من الرياض أو يصف الأهرام أو يصف الصباح، وفيه يقول:
"جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، من قديم في الزمان وحديث، إلى أن صارت الليلة في أخريات الشباب، واستهانت بالإزار والنقاب، ثم دب المشيب في فودها، وبان أثر الوضح في جلدها، فعبثت بالعقود والقلائد، من الجواهر والفرائد، ونزعت من صدرها كل منثور ومنظوم، من درر الكواكب ولآلئ النجوم، وألقت بالفرقدين من أذنيها، وخلعت خواتيم الثريا من يديها، ثم إنها مزقت جلبابها، وهتكت حجابها. وبرزت للناظرين عجوزًا شمطاء،