للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ترتعد متوكئة على عصا الجوزاء، وتردِّد آخر أنفاس البقاء، فسترها الفجر بملاءته الزرقاء، ودرجها الصبح في أرديته البيضاء، ثم قبرها في جوف الفضاء، وقامت عليها بنات هديل، نائحة بالتسجيع والترتيل، ثم انقلب المأتم في الحال عرس اجتلاء، وتبدَّل النحيبُ بالغناء، لإشراق عروس النهار، وإسفار مليكة البدور والأقمار".

والمويلحي في مثل هذا الوصف إنما يحاول صنع قطعة أدبية على الطريقة القديمة، التي كان يُعْنَى أصحابها بسرد عبارات مختارة دون تحديد ما يصفون، وكأنه يصف كل صباح لا صباحًا بعينه شاهده وأثَّر في نفسه تأثيرًا خاصًّا، فأفرده بالوصف والتصوير.

غير أن هذه القطع تمتد في حوار طويل بين المنيكلي وعيسى بن هشام أو بين أحدهما وبعض شخصيات القصة أو بين الشخصيات نفسها. ومن الحق أنه وسَّع جنبات المقامة القديمة التي كانت تعتمد على مثل هذا السرد اللفظي في قطعة الصباح، وخرج بها إلى حوار واسع؛ تأثر فيه بطريقة الغربيين في قصصهم. فالحوادث تتطور والشخصيات تصوَّر بنزعاتها النفسية في المواقف المختلفة. ومن حين إلى حين نشاهد ضروبًا من الصراع كما نشاهد ضروبًا من السخرية المستمدة من طباع الشخصيات ومن مفارقات الحوادث ومفاجآتها. وهو في حواره وشخصياته وحوادثها يستمد من الواقع المحلِّي ونُظُم بيئته المصرية، إلا أن ذلك كله وُضع في إطار المقامة الضيق بسجعه.

ومع ذلك استطاع المويلحي أن يكتب في هذا الإطار نحو ثلاثمائة وسبعين صحيفة. وفي الطبعة الرابعة للكتاب أضاف إلى رحلة المنيكلي وعيسى بن هشام في عالم الأحياء المصري رحلة ثانية إلى باريس؛ ليشاهد المنيكلي معالم المدنية في الغرب وليرى بعض معارضها. ويعودان إلى مصر وقد اقتنع المنيكلي بأن المدنية الغربية ليست شرًّا خالصًا، وأنه لا بأس من أن نستمد منها؛ ولكن على أن يوافق ما نستمده تقاليدنا وطباعنا وأمزجتنا وروحنا الشرقية، وبعبارة أدق: على أن نمصِّره على نحو ما مصَّر المويلحي القصة الاجتماعية في حديث عيسى بن هشام.

<<  <   >  >>