للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والرافعي حقًّا من كتابنا القلائل الذين عاشوا معيشة داخلية في حقائق دنيانا، متجاوزًا ظاهرها الحسي إلى قواها الروحية الباطنة، وقد أعانه على ذلك صممه المبكر الذي جعله يحيا بين الناس وكأنه غريب عنهم، ويتحدث إليهم وهو لا يسمعهم. فكان طبيعيًّا أن يفضي إلى ذات نفسه، وأن يعيش هذه المعيشة الداخلية التي عكف فيها على عقله، وانطلق به متجولًا في باطن الحقائق الظاهرة، مسلطًا عليها من إشعاعاته العقلية ما جعل معانيها الخفية تتألق أمام عينيه.

واقرأ له في وحي القلم أي مقالة، فستراه يحوِّل أي موضوع اجتماعي أو سياسي أو تاريخي وأي مشهد في الطبيعة أو في حياة الناس وأي خبر من أخبار العرب أو الإسلام إلى ما يشبه ينبوعًا لا تزال تتفجر منه المعاني الخفية التي تروع بدلالاتها، وبما أخرجها فيها من صيغة عربية بديعة. فتملكه لزمام اللغة لا يقل عن تملكه لزمام المعاني، وبصره بجمال أساليبها لا يقل عن بصره بالقوى الكامنة في حقائق الأشياء.

ولمن يكن يتقن لغة أجنبية إلا أطرافًا من الفرنسية ليس فيها غناء؛ ولكنه وجد في موارده الداخلية ما يعوِّض هذا النقص؛ بل ما جعله يتقدم بطرائف فكره كثيرين ممن تعمقوا الآداب الغربية وأفادوا من كنوزها المعنوية. وحقًّا قد يجري الغموض والالتواء في جوانب من كتابته، وهما طبيعيان لمثل هذا الكاتب الذي كان يسرف في التعمق والتغلغل في معانيه إسرافًا تنوء به اللغة، فلا تنهض بما يريد أحيانًا، غير أنها حين تواتيه، يجتمع لتعبيره جلال الإدراك العقلي وجمال الأسلوب اللفظي؛ إذ كان له ذوق مهذب مصفى وحس دقيق مرهف وعقل يقتدر على التجريد والتوليد والنفوذ إلى العلاقات والدلالات البعيدة.

وهو في مقالاته بوحي القلم يستلهم دائمًا مثله الإسلامية مستضيئًا بها في كل ما يكتب، كما يستلهم مثله العربية الرفيعة؛ بحيث يمكن أن نلقبه "كاتب الإسلام والعروبة". واقرأ له مقالاته: "الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام" و"الإنسانية العليا" و"الله أكبر" و"وحي الهجرة" وغير ذلك من مقالات إسلامية فستراها حافلة بمعانٍ تملأ النفس إعجابًا. وحين تراءت

<<  <   >  >>