جمال الدين الأفغاني فترة في إستانبول كما صحب محمد عبده في جنيف وبعد جنيف، ولم تلبث مبادئهما أن تسربت إلى روحه؛ بل أخذت تتأجج بين ضلوعه نارُ الشوق إلى التخلص من الاحتلال، وأن تُرَدَّ إلى بلده كرامته القومية.
ووضع يده في يد مصطفى كامل؛ ولكنه كان يختلف عنه؛ إذ كان من مدرسة أخرى، مدرسة الشيخ محمد عبده، التي لم تكن ترى الثورة حينئذ على الأوضاع عملًا ناجعًا لإنقاد الوطن، ولم يكن يعجبها صنيع مصطفى كامل في الاتجاه تارة إلى الدولة العثمانية، وتارة إلى فرنسا والأمم الغربية ظانًّا أن هذه الدول تنقذ مصر من براثن الاحتلال، وترد إليها حريتها.
إن الكفاح لاستقلال أي شعب ينبغي أن يصدر عنه، وإن من الخطأ أن نطالب أممًا باستقلالنا، وهي إنما تحرص على مطامحها السياسية التي قد تتعارض مع رغباتنا وأمانينا الوطنية. وفعلًا اتفقت إنجلترا مع فرنسا على أن تطلق الأولى يدها في مصر، نظير إطلاق يد فرنسا في مراكش. فلا أمل في الخارج ولا في الدول الغربية المستعمرة، وكذلك لا أمل في الدولة العثمانية المريضة.
ونحن في كفاحنا ينبغي أن نفكر أول ما نفكر في الإصلاح، فنعلِّم الشعب، ونلقِّنه حقوقه وواجباته السياسية، ونوجد فيه الرغبة الأكيدة لاستقلاله، وندعو دعوة حارة إلى أن تسود فيه مبادئ الحرية، حرية الفرد وحرية الأمة، ونحضه على أن يستمسك بشخصيته ومصريته؛ حتى يذود بروحه عن كيانه ووجوده، ولكن كيف يكون ذلك؟ إنه لا بد من تربية الشعب وتعريفه المثل العليا التي ينبغي أن يحوزها لنفسه في النظم السياسية والاجتماعية، وفي شئون حياته المختلفة.
وآمن أعضاء حزب الأمة بأن هذه التربية هي الوسيلة الحقيقية للتخلص من الاحتلال، وهي وسيلة متأنية؛ إذ تحتاج وقتًا لبثها في أفراد الشعب، فهي ليست ثورة وطنية عنيفة كثورة مصطفى كامل؛ وإنما هي دعوة للتطور والرقي من الداخل؛ حتى تقف الأمة على أقدامها، وتصرخ في وجه الإنجليز الصرخة المدوية المنبعثة من أعماقها. وكان يؤمن بذلك رجالات حزب الأمة من هؤلاء المصلحين المختلفين الذين انبثوا في أعمال الدولة، والذين استطاعوا بفضل ثقافتهم أن يفهموا