وكان قصيرًا تقتحمه العين، وأحس ذلك في نفسه، فضاق بحياته وتبرَّم بها غاية التبرم، وزاد تبرمه حدة أن أصيب ساقه في حادثة سببت فيه عرجًا، لازمه إلى مماته.
ويقرأ المازني وتتسع قراءته، وينفتح أمامه العالم الغربي عن طريق إتقانه للإنجليزية، فلا يقف عند ما يقرؤه في الأدب الإنجليزي؛ بل يقرأ كل ما استطاع في الآداب الغربية المختلفة، يقرأ لتورجنيف ولهاتزيباشيف الروسيين، ويترجم للأخير قصة "سانين" باسم "ابن الطبيعة" كما يقرأ لمارك توين الأمريكي ولغير هؤلاء جميعًا ممن يُطْبَعُ أدبهم بطوابع السخرية.
وتُحْدث هذه القراءات أثرها العميق في نفس المازني، فإذا هو ينقلب من شاعر وجداني تطفح نفسه بالمرارة والألم إلى كاتب من طراز ساخر يستخف بالحياة وبكل من فيها وما فيها من أشخاص وأشياء وأمانٍ وآلام. ويترك المدرسة الإعدادية، وينتظم في سلك الصحافة إلى نهاية حياته؛ ولكنه لا ينغمر في السياسة؛ إذ يظل مستقلًّا بآرائه وأفكاره شاعرًا بأنه من رجال الأدب لا من رجال السياسة؛ بل تظل له شخصيته الأدبية الساخرة، وكأنه وجد نفسه التي كان يبحث عنها من أوائل القرن كما وجد فلسفته، وهي فلسفة تقوم على لقاء الحياة بالابتسام والسخرية في كل الأحوال والظروف. فلم تعد عيناه تدوران في جوانبها الحالكة، ولم يعد يندبها ويبكيها، فهي لا تستحق عنده سوى الاستخفاف والاستهانة؛ بل لكأنما شعر أن عليه لقرائه واجبًا أن يعينهم بسخريته وفكاهته على تحمل أعباء دنياهم والنهوض بأثقالها.
ونراه يبدأ هذه المرحلة الجديدة بمهاجمة المنفلوطي وأسلوبه الإنشائي الفارغ من الفكر العميق ومن الثقافة، وذلك في كتاب "الديوان" الذي أخرجه مع العقاد، كما يهاجم شكري في شعره الجديد، وربما كان ذلك دليلًا على أنه استوى شخصًا آخر غير الشاعر القديم الذي كان يدعو دعوة حارة لمحاولة التجديد في الشعر. إنه لم يعد يعجب بهذه المحاولة ولا بصاحبها شكري، وإنه يحاول الآن محاولة جديدة؛ ولكن ليست في الشعر؛ وإنما هي في النثر وفي