من حين لآخر صوت الدِّيَكة تتجاوب من جوانب القرية، ثم أذان المؤذن بالفجر يشق عباب الجو إلى السماوات. ولما صلى حامد ركعتيه مع الجماعة خرج إلى جهة المزارع التي لا تزال خالية من كل حي، وهواء تلك الساعة خالطته الرطوبة يزيد في نشاطه، وكل شيء يخرج قليلًا قليلًا من دثار الخفاء، والأفق يتجلى عند مرمى النظر، فتنكشف أمام العين المزروعات بعد أن أخذت نصيبها من الطل، ثم احمرت السماء في المشرق، وطلعت الشمس تلامس الأرض وتحيِّي الموجودات تحية الصباح، ثم تعلو وترتفع، وينقلب لون القرص الأحمر الهادئ الباسم في مطلعه، ويرسل بأشعته فتتلألأ تحتها قطع الطل على أوراق الشجيرات والحشائش النابتة على الْمَرْوَى، فتطوق المزرعة الهائلة بقلادة تزينها. وحامد بين هاته الموجودات يمشي مفكرًا يطرق أحيانًا، ويتطلع إلى ما حوله أخرى. ثم ابتدأ الفلاحون يفدون إلى عملهم فُرادى، كل ييمم نحو مزرعته الصغيرة التي يملك ورثها عن أبيه عن جده، أو جاد بها الحظ وأعطته إياها المصادفة التي لا ينتظر، ومعه بقرته أو جاموسته، أو هو قد اكتفى بفأسه، فإذا مر بحامد ألقى عليه تحية الصباح، ثم استمر في سيره مندهشًا، ما شأن هذا الإنسان هنا في تلك الساعة من النهار. وحامد يفكر كيف يتسنى له أن يكون إلى جانب عزيزة وليس عليهما من رقيب، أو أن يبثها ما في نفسه ليسمع منها أنها تحبه. يريد أن يسمع تلك الكلمة من فمها، فهل لذلك من سبيل؟
واستولى ذلك على كل جوارحه، وملَك كل عواطفه؛ حتى لجعله ينظر لأهله المحيطين بها نظرة الغضاضة. وما كان ليقدر على إطلاع غيره على حبه، وهو يعلم ما تكنه النفس المصرية لذلك الإحساس من الضحك منه والاستهزاء به. تلك النفس القاسية التي تنظر لكل جمال في الوجود أو الإحساس به نظرة ساخرة؛ لأنها لا تفهم منه شيئًا، وتحسب أن حياة الجد هي التي يقضيها صاحبها بين العمل والتسبيح، وكأن الوجود لم يكُ إلا طاحونًا نقطع فيه أعمارنا لاهثين لغوبًا ونصبًا، مغمضين أعيننا عن كل حسن، واجبنا أن نرضى بحظنا، ونقنع بما يقدَّم لنا بعد كل علفة من العلف، وإلا كان جزاؤنا ما يصيبنا من سخط