وكان يقضي الصيف في بعض ضياعه، مختلطًا هو وأبناؤه بالفلاحين، كأنهم منهم.
وفي هذا الوسط وتلك البيئة نشأ محمود، وأخوه محمد، وبقية إخوتهما، يتنفسون في هذا الجو الهادئ السعيد. وانتظم محمود في المدرسة الابتدائية، ثم الثانوية، وعَيْنُ أبيه ترعاه، وقد أخذ يصله بهوايته من قراءة الأدب، وألزمه هو وإخوته حِفْظَ معلقة امرئ القيس، وكأنه يريد أن يعلق في ذاكرتهم تميمة اللغة العربية، ووصَلَهم بالكتب القديمة، وخاصة القصصي منها مثل ألف ليلة وليلة.
ولم يلبث الأخوان محمد ومحمود أن أصدرا صحيفة منزلية يسجلان فيها أخبار المنزل والأصدقاء، وأنشآ مسرحًا بيتيًّا يمثلان فيه بعض المسرحيات الساذجة، ودفعهما ذلك إلى الإقبال على قراءة الروايات والقصص المترجمة، وأكثرا من قراءة المنفلوطي والآثار الجديدة التي كان يُحْدثها أدباء المهجر من أمثال جبران. وأخذ محمود ينظم الشعر، ويكتب طرائف من الشعر المنثور.
وسافر محمد إلى باريس سنة ١٩١١، وظل بها إلى سنة ١٩١٤، وهناك استوت له معرفة دقيقة بأدب القصة والمسرحية. وفي هذه الأثناء كان محمود قد أتم تعليمه الثانوي والتحق بمدرسة الزراعة العليا، إلا أنه مرض بمرض التيفود وأثَّر في بنيته وقواه الجسمية، فاضطُر إلى قطع دراسته. وعاد محمد، فوقف منه على ما وراء البحر من أدب قصصي وتمثيلي، وأخذ يصور له قواعده وأصوله، وحبَّب إليه قراءة حديث "عيسى بن هشام" للمويلحي و"زينب" لهيكل. ولم يلبث محمد -كما مر بنا في غير هذا الموضع- أن انضم إلى جمعية من هواة التمثيل، وألف بعض مسرحيات وأقاصيص بلغتنا العامية.
وأخذ محمد يلقن أخاه محمودًا المذهب الواقعي في الأقصوصة الغربية، وأخذ محمود يقرأ فيه، وخاصة في موباسان القصاص الفرنسي الواقعي، الذي كان يعجب به أخوه إعجابًا شديدًا. وقد جرى في إثره يعجب به وبأسلوبه القصصي القائم على التركيز وتماسك الأحداث في الأقصوصة تماسكًا متينًا.