يُحسن نظم الشعر؛ وإنما استن سنة جديدة صحح بها موقف الشعر والشعراء، فردهم إلى الطريقة القديمة، أو بعبارة أدق: ارتد هو إلى تلك الطريقة، ونقصد طريقة الرواية التي كان يتلقن بها الشاعر الجاهلي والأموي أصول حرفته.
وكان هذا حدثًا خطيرًا في تاريخ شعرنا الذي تدهور إلى أساليب غثة مكسوة بخرق البديع البالية، تُكرَّرُ في صور من الهذيان على كل لسان. فأزال البارودي من طريقه هذه الأساليب، واتصل مباشرة بينابيع الشعر العربي القديمة في العصر العباسي وما قبله من عصور، ولم يلبث أن أساغها وتمثلها تمثلًا دقيقًا، فقد أُشْربتها روحه، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من شعره وفنه.
وواضح من ذلك أن مذهبه الفني لم يكن يقوم على نبذ القديم كله؛ وإنما كان يقوم على نبذ صورة خاصة هي صورة الشعر الغث الذي ينتجه عصره والعصور القريبة منه، أما الشعر العباسي وما سبقه فينبغي للشاعر ألا يَنْبذه؛ بل عليه أن يسير في دروبه ويصب على صيغه وقوالبه. وكان هذه الاتجاه يعد ثورة في عصره؛ لأنه خروج عن مألوف معاصريه، وعَوْدٌ بهم إلى أساليب لا يعرفونها ولا يألفونها، وكانت قد فسدت أذواقهم فأصبحت لا تقدرها قدرها ولا تشعر بما فيها من متاع وجمال.
أما البارودي فقد شعر بهذا المتاع والجمال إلى أبعد حد، وانطلق يصوغ شعره على طريقة العباسيين ومن سبقوهم، واتخذ ذلك مذهبًا له، وأعلنه في صراحة واضحة، فكان يحاكي الشعراء القدماء ويعارضهم من مثل: النابغة وبشار وأبي نواس والمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي، وأتيح له أن يتفوق في أكثر معارضاته.
وهذا هو مذهبه الفني؛ بَعْثُ الأسلوب القديم في الشعر وتعمد إحيائه، وهو لا يموه في ذلك ولا يكذب؛ بل يصرح به ويدعو الشعراء إلى تقليده، ولعل من الطريف أن الشعر حين انفك عنده من الأساليب التي عاصرته أخذ يعبر في حرية عن مزاج الشاعر ونفسيته وكل ما يتصل به من أحداث.
فالبارودي إنما يستعير من القدماء إطارهم الذي يقوم على قوة الأسلوب