للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أننا لا نمضي طويلًا معه، حتى نراه يتبين نفسه فينزع عنها رداء الشعر الرسمي، ويخلص للتغني بعواطفه الصادقة، وحينئذ تتراءى جميع العناصر التي أشرنا إليها آنفًا في تكوين شخصيته الأدبية، فإذا هو شاعر قاهري رقيق، وإذا هو امتداد للروح المصرية التي مثلها في عصورنا السابقة البهاء زهير من طرف وابن الفارض من طرف آخر، وأيضًا إذا هو يتأثر في بعض معانيه وأخيلته بما عرَف من معانٍ وأخيلة في الأدب الفرنسي.

أما أنه امتداد للبهاء زهير، فإن ذلك يتضح فيما نظمه في الحب والمرأة؛ فقد عمد فيه إلى ضرب من الشعر الوجداني الصافي الذي يشف عن كل ما وراءه، في أسلوب ليس فيه تكلف ولا ما يشبه التكلف. ليس فيه ما كان يردده القدماء من وصف صخامة الرِّدْف ورقة الخصر والريق والنهود واللثم وغير ذلك مما يصور اللذة الحسية، وتأنف منه الأذواق السليمة؛ إنما فيه عاطفة الحب الطاهرة العفيفة، على شاكلة قوله في بعض الحِسَان:

إن هذا الحسن كالماء الذي ... فيه للأنفس ري وشفاء

لا تذودي بعضنا عن ورده ... دون بعض واعدلي بين الظماء

وتجلي واجعلي قوم الهوى ... تحت عرض الشمس في الحكم سواء

أقبلي نستقبل الدنيا وما ... ضُمِّنَتْه من معدات الهناء

واسفري تلك حُلًى ما خُلقت ... لتُوارَى بلثام أو خباء

واخطري بين الندامى يحلفوا ... أن روضا راح في النادي وجاء

وابسمي من كان هذا ثغره ... يملأ الدنيا ابتسامًا وازدهاء

لا تخافي شططًا من أنفس ... تعثر الصبوة فيها بالحياء

راضت النخوة من أخلاقنا ... وارتضى آدابنا صدق الولاء

أنت روحانية لا تدعي ... أن هذا الحسن من طين وماء

وانزعي عن جسمك الثوب يَبِنْ ... للملا تكوين سكان السماء

وأرِي الدنيا جناحي ملَك ... خلف تمثال مصوغ من ضياء

<<  <   >  >>