ونشأة حافظ في الطبقة الأولى واختلاطه بالطبقة الثانية طبعا شعره بطوابع قوية؛ بحيث أصبح شاعرًا مصريًّا تامًّا يصور النفس المصرية الطامحة في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن تصويرًا دقيقًا، وماذا تريد من تصوير الشعب؟ أما إن كنت تريد تصوير شكواه وحزنه وبؤسه وفقره فقيثارة حافظ تسمعك كل هذه الألحان الشجية، وأما إن كنت تريد ما يضطرب في قلوب زعمائه ومصلحيه من دعوات عقلية وروحية وسياسية ووطنية، فالقيثارة نفسها تتدفق عليها هذه الأنغام وكأنه تعتصرها اعتصارًا.
وكثر في أول هذا القرن المتعلمون، وأخذت الصحف تظهر بانتظام وتنشر الشعر والمقالات الأدبية، وأخذ الشعراء يتنافسون في نشر إنتاجهم بالصحف، ودعاهم ذلك إلى أن يفكروا في الجمهور، وأن يخاطبوا طبقاته الوسطى ويغنوا عواطفها السياسية والوطنية والاجتماعية، وكان حافظ هو الصوت الأول الذي لبى حاجة الجماعة المصرية.
وانقسم المصريون حزبين: الحزب الوطني وحزب الأمة، وكثر الحوار في الآراء السياسية، وكثرت المقالات، وأخذ الكُتاب يكتبون في عيوبنا الاجتماعية، وتبعهم الشعراء ينظمون شعرًا سياسيًّا واجتماعيًّا، وتقدمهم حافظ ينشئ هذا الشعر ويذيعه في صورة قوية.
وحافظ في هذه الجوانب يبلغ -وخاصة في أول القرن- ما لم يبلغه شوقي والبارودي، أما شوقي فكان موظفًا بالقصر، وكان بعيدًا عن الشعب ومصلحيه، وأما البارودي فمعروف أنه ممن ثاروا في ثورتنا الأولى مع عرابي، إلا أن المتعلمين في أيامه كانوا قلة قليلة، ولم تكن الصحف قد شاعت، ولم يكن قد تكوَّن جمهور واسع من القراء، ثم هو نشأ نشأة أرستقراطية، فكان شعوره بنفسه أقوى من شعوره بالشعب؛ بل لا نبالغ إذا قلنا: إنه في شعره السياسي إنما كان يصور نفسه وطموحه لحكم مصر أكثر من تصويره لحرية الشعب التي يريدها المصريون ويحلمون بها.
على كل حال لم يقصد البارودي بشعره إلى الجمهور أولًا، أما حافظ فقد