للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في مديح الرسول حتى يُرضي عواطف قرائه الدينية، وأشاد مرارًا بعيسى ليرضي قراءه من المسيحيين، وله وقفات نبيلة يدعو فيها المصريين إلى توحيد صفوفهم من أقباط ومسلمين.

ويُنْفَى إلى إسبانيا، فينظم قصائد يقارن فيها بين فردوسه المفقود وفردوس العرب الضائع في الأندلس، وينشج وينوح ويصور قروحه النفسية لا في سينيته فقط؛ بل أيضًا في نونيته، ولكن دون أن يشعر بهوان؛ بل إنه يستشعر كبرياء قومه في أقوى صورة، كما نرى في مثل قوله:

نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا ... ولم يَهُنْ بيد التشتيت غالينا

لم تنزل الشمس ميزانًا ولا صعدت ... في ملكها الضخم عرشًا مثل وادينا

وهذه القصيدة الرائعة صاغها على نسق قصيدة لابن زيدون، وكذلك صاغ سينيته على نسق قصيدة البحتري في إيوان كسرى. ومعنى ذلك: أنه كان لا يزال في الأندلس شاعرًا تقليديًّا من بعض جوانبه؛ إذ يُعْنَى ببعض القصائد القديمة الرائعة، فيعارضها، وينظم من وزنها وقافيتها، وإن اختلفت القوالب بالقياس إلى ما تؤديه، فإن القوالب القديمة عنده دائمًا لا تستعصي على أداء ما يريد من معانٍ وأفكار، وهي لذلك تصبح عنده كيانًا فنيًّا حيًّا، له روعته وجماله.

ويعود من المنفى بعد الحرب، فيجد الشعب في ثورته السياسية، ويجد أبواب القصر مغلقة من دونه فيتجه إلى الجمهور، ويصور عواطفه وأهواءه السياسية تصويرًا قويًّا باهرًا يتفوق فيه على حافظ؛ لأن مواهبه أقوى من مواهب حافظ، ولأن حافظًا كان حبيسًا في قفص الوظيفة بدار الكتب المصرية.

على كل حال، أهم ما يميز شعر شوقي في هذه الدورة الثانية من حياته أنه تحول من القصر إلى الشعب، فصوَّره في آماله الوطنية وحركاته السياسية، ولم يعد شاعرًا تقليديًّا، بل أصبح شاعرًا شعبيًّا، ولكن بطريقته الفنية الخاصة، وهي طريقة لم تعد تعتمد على معارضات الشعراء القدماء؛ وإنما تعتمد اعتمادًا عامًّا على الجزالة والمتانة. ومن خير ما قاله في هذه الفترة قصيدته التي نظمها في

<<  <   >  >>