للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على كل حال، لم ينفصل مطران عن القديم؛ بل له عنده ظواهر مختلفة؛ إذ يجري في شعره، ولكنه لا يجري منفردًا؛ بل يجري معه تيار جديد صب في شعره من الغرب وآدابه، وكان يحس هذا التيار إحساسًا عميقًا، وهو الذي دفعه للاحتفاظ بشخصيته، فلم يفنَ في القديم، بل مضى يجدد على ألوان شتى.

وكان من أهم ما اتجه إليه في تجديده أن يعبر تعبيرًا مستقيمًا عن أحاسيسه غير متكلف لتشبيهات القدماء واستعاراتهم على نحو ما يصنع شوقي، وبذلك أحلَّ الشعورَ الدقيق محل الخيال، وأعطى لشعره فسحة واسعة من الابتكار في المعاني والأفكار.

وتبع ذلك أن القصيدة عنده أصبحت تعبيرًا نفسيًّا متكاملًا، وبعبارة أخرى: أصبحت عملًا ذاتيًّا تامًّا، فتجلت فيها الوَحْدَة الفنية، وأصبحت في مجموعها تعالج موضوعًا واحدًا؛ إذ لم يعد يسلك إلى موضوعاته الأدبية مقدمات القدماء، ولم يعد ينهج نهجهم في بعثرة موضوعات مختلفة في القصيدة الواحدة؛ بل القصيدة تقف عند تجربة نفسية خاصة، والشاعر يصوغها في أبيات متعاقبة، كل بيت فيها جزء في التجربة، فلا نبو ولا شذوذ ولا تفكك بين الأبيات؛ وإنما الالتحام والاتساق؛ إذ هي خيوط في نسيج واحد أُحْكمت صياغته إحكامًا دقيقًا.

ومطران إنما يستمد في ذلك من نموذج القصيدة الغنائية عند الغربيين؛ إذ تصل بين الأبيات فيها وَحْدَة عضوية تامة. وليس هذا كل ما جاءه من الاتصال الأدبي والذهني بالغرب، فقد شعر مثل أدبائهم -وخاصة عند أصحاب الرومانسية منهم- بآلام النفس البشرية، وتغنَّى هذه الآلام غناء مليئًا بالحزن والشجَى، وتمثِّل ذلك قصيدته "الأسد الباكي" وكذلك قصيدته "في تشييع جنازة" وهي جنازة عاشق انتحر يأسًا من عشقه، كما تمثله قصيدة "الجنين الشهيد" الذي صور فيها حزن فتاة أغواها شاب ثم رماها في الطريق.

وهذا الجانب عند مطران يفوح على قارئه بشذى وجداني ينفذ إلى قلبه وأعماقه، وهو يمد عين بصيرته فيه إلى عناصر الطبيعة على نحو ما يصنع شعراء

<<  <   >  >>