للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

صبرًا عفاق إنها الأساوره ... صبرًا ولا تغررك رجل نادره١

وهذا حياض بن قيس القشيري، يرثي رجله، حتى ليعرف يناشد رجله، فيفخر به سوار بن أوفى في قوله:

ومنا ابن عتاب وناشد رجله ... ومنا الذي أدى إلى الحي حاجبا٢

وكان حياض هذا قد ضربه أحد الروم في اليرموك فقطع رجله، فقال متوهمًا الروم أساورة يخاطب فرسه:

أقدم حذام إنها الأساورة ... ولا تغرنك رجل نادره

أنا القشيري أخو المهاجرة ... أضرب بالسيف رءوس الكافرة٣

وذكر بعض الشعراء مثل هذا مما فعلوه بالعدو. فهذا علقمة بن الأرث، يتحدث عن الأكف والأسواق التي أطاحها المسلمون من الروم في يوم فحل فيقول:

وكم من قتيل أرهقته سيوفنا ... كفاحًا وكف قد أطيحت وأسوق٤

وجلي أن هذا اللون يغلب عليه طابع إسلامي بصورة ظاهرة، في معانيه وألفاظه وما يشيع فيه من روح الفداء والتضحية والاحتساب، في مقابل ما أعده للمجاهدين من حسن الثواب.

وخلاصة القول: إن شعر الجهاد فارق الحماسة الجاهلية، في التخفف من كل ما حظره الإسلام من الغزل المحسوس، والتغني باللهو والعبث والشراب، ولم يعد تفاخرًا بالشجاعة في الثأر والانتقام والإغارة، وإنما أصبح تفاخرًا بالبطولة، والتفاني في الجهاد في سبيل الله، الذي يظهر فيه إيمان الشاعر بالعقيدة التي دفع عنها إيمانًا عميقًا، يستشرف فيه الشاعر مغانم أخروية وعده الله بها، ويصدر فيه عن روح الجماعة الإسلامية، التي كادت تذوب داخلها القبليات والنعرات الجاهلية، كما يصدر فيه عن نفسه كعضو في هذه الجماعة واضح الشخصية متميزها، يؤدي واجبًا يشعر بقداسته ويؤمن بدواعيه.

وكذلك اختلف شعر الرثاء في الفتوح عن الرثاء التقليدي، فيما شاع فيه من آثار التعاليم الدينية ومظاهر الإيمان بالموت والاستبشار بالجنة، فضلًا عن هذا اللون الجديد من الرثاء الذي بكى فيه المسلمون أشلاءهم بكاء جديدًا، يظهرون فيه الاستهانة بما فقدوا في سبيل الله. ويلف الرثاء بلونيه التقليدي والمستحدث إطار إسلامي جلي، وإشارات واضحة إلى الجنة والثواب والأجر الذي أعده الله للشهداء والمجاهدين.


١ الطبري ج٥، ص٢٣٢٩.
٢، ٣ الإصابة ج٢، ص٦٨.
٤ الإصابة ج٥، ص١١١.

<<  <   >  >>