للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقد ظلت هذه الآثار تتناقل على الألسن زمنًا قبل تدوينها، وأسهم القصاص الذين كانوا يتحدثون إلى الناس في مساجد الأمصار -فيذكرون لهم من أخبار المغازي والفتوح ما يمثل لهم أهواءهم وشهواتهم ومثلهم- إسهامًا خطيرًا في البعد بهذه المرويات المأثورة من الواقع إلى الخيال البعيد.

فقد كان هؤلاء القصاص يمضون مع الخيال إلى حيث يستطيع الخيال أن يذهب بهم، لا إلى حيث يلزمهم العلم والصدق أن يقفوا. وكأن الناس كلفين بهؤلاء القصاص، مشغوفين بما يلقون إليهم من حديث١. كما كان القصاص كلفين بإرضاء روح الشعب الذين كانوا يتحدثون إليه، والذي يطلب المعجزة في كل شيء، فعنوا عناية كبيرة بالأساطير والمعجزات وغرائب الأمور، وصوروا له تاريخه وفتوحه كما يحب أن يراها وأن يسمعها، ورسموا له صور الأبطال الذين يعجب بهم ويتمثلهم رسمًا خياليًّا أسطوريًّا.

وكانت هذه الأحاديث شأنها شأن القصص الشعبي كله في حاجة إلى الشعر، فالبطل لا بد أن يكون شاعرًا إلى جانب فروسيته، وعاشقًا ومستخفًّا بكل المصاعب التي يواجهها. وهذه المواقف في حاجة إلى الشعر؛ لتزيينها، وتشويق الشعب لسماعها. ورصعت هذه الأحاديث بالشعر، وأضيفت هذه الأشعار إلى الشعراء وغير الشعراء، ونتجت أشعار تنسب إلى غير قائل، وأشعار أخرى تنسب إلى الجن، وولدت الروايات، وامتلأت بالأعاجيب والتهاويل، حتى ليذهب بعض الباحثين المحدثين إلى أن الأخبار التي استخلص منها تاريخ العرب ليست إلا المظهر القصصي للحياة العربية القديمة، ذكرها العرب بعد أن استقروا في الأمصار، فزادوا فيها ونموها وزينوها بالشعر٢.

وظلت الروايات هذه تتعرض لعمل الرواة والقصاص، وتتأثر بالظروف التي تروى خلالها؛ حيث اشتدت العداوة السياسية، وعادت العصبية جذعة عقب الانتهاء من الفتوح، واشتعلت الفتن، ولعبت هذه الظروف -فضلًا عن تعلق روح الشعب الذي شغف برواية أخبار الفتوح- دورها في تغيير صور هذه الآثار إلى ما يرضي نزعات


١ في الأدب الجاهلي ١٨٩.
٢ في الأدب الجاهلي ٢٠٠.

<<  <   >  >>