للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وما من شك في أننا نستطيع كذلك أن نعتمد على شعر الفتح، الذي لم يغادر معركة كبيرة ولا صغيرة إلا صورها كوثيقة تاريخية عاطفية لهذه الحركة الخطيرة في حياة الدعوة الإسلامية، والشروع في بناء حياة مستقرة في البلدان المفتوحة والأمصار الإسلامية.

وبرغم قصر المدة التي بسط فيها المسلمون أجنحتهم على هذه المناطق الشاسعة، فإن الشعر قد أفلح في إعطائنا بعض الملامح البارزة لهذه المناطق، كما أنه ألقى إلينا ببعض الضوء على التزاوج الذي أخذ يحدث بين النفوس العربية المنطلقة وتلك الأجواء الغريبة عنهم في طبيعتها وسبل الحياة فيها، فإذا بعض النفوس راضية مطمئنة في مناطق معينة، وإذا بعضها الآخر لا يقر له قرار في مناطق أخرى.

وفضلًا عن هذا استطاع شعر الفتح أن ينقل إلينا بعض الانعكاسات المتولدة عن الاحتكاك البكر بين هذه النفوس وتلك المناطق، وما سقط إليها من التأثيرات الحضارية، التي اعترضت خبراتهم وثقافاتهم من أثر هذا الاحتكاك.

ورائع جدًّا هذا الضرب من الشعر.. الذي تغنى فيه المجاهدون الغرباء همومهم فبكوا واستبكوا أوطانهم التي فارقوها وخلفوا فيها أحباءهم وأهليهم، في رقة وعذوبة وشجن، لم نعهد له مثيلًا في الأدب العربي من قبل.

ومن نافلة القول أن نؤكد أن الشعر الذي هاجر في وجدان المحاربين وعلى ألسنتهم إلى هذه البقاع الجديدة التهي رفرفت عليها راية الإسلام، لم يكن إلا البذرة الأولى التي أثمرت بعد عصر استقرار المجتمعات الإسلامية؛ إذ سكن الفاتحون هذه الأمصار، وزحفت في أعقاب الفتوح هجرات غطت الأرض الجديدة، ووسمت إنتاجها في الشعر بنفس السمات التي حددتها الفتوح، من حيث الكم والكيف.

وليس ثمة شك في أن هذا الشعر استطاع أن يصور جوانب من حياة هؤلاء المتوطنين في الأمصار، وما اكتنف حياتهم من جراء تطبيق النظم الإدارية الإسلامية، وما كان يعتري علاقاتهم بأمرائهم وقادتهم وخلفائهم، من نقد لسياستهم واتهامهم إذا ما انحرفوا، وعزلهم إذا ما ثبت انحرافهم.

<<  <   >  >>