للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعلام يحفلون بهذه الدعوات وهذه الدموع ما دام الله تعالى قد دعاهم؟ فهذا الحتات يجيب أباه لما جزع عليه وبكاه واستعطفه ليرجع:

ألا من مبلغ عني ذريحا ... فإن الله بعدك قد دعاني

فإن تسأل فإني مستقيد ... وإن الخيل قد عرفت مكاني١

وهكذا كانوا يتسابقون إلى الجهاد، لا يعبئون بأهليهم الذين يناشدونهم عجزهم وضعفهم، فيضربون بكل هذا عُرْض الحائط، إيثارًا للآخرة، وحبًّا في الظفر، ورغبة في المثوبة. فهذا أبو خراش الهذلي يقدم إلى المدينة فيجلس بين يدي عمر؛ ليشكو إليه شوقه إلى ابنه خراش الذي أوغل مع جيوش المسلمين في أرض الشام وتركه وحيدًا، بعد أن انقرض أهله ومحبوه، وقتل إخوته، ولم يبقَ له ناصر أو معين، ثم ينشده:

ألا من مبلغ عني خراشا ... وقد يأتيك بالنبأ البعيد

وقد يأتيك بالأخبار من لا ... تجهز بالحذاء ولا تزيد

تناديه ليغبقه كليب ... ولا يأتي لقد سفه الوليد

فرد إناءه لا شيء فيه ... كأن دموع عينيه الفريد

وأصبح دون غابقة وأمسى ... جبال من حرار الشأم سود

ألا فاعلم خراش بأن خير الـ ... مهاجر بعد هجرته زهيد

رأيتك وابتغاء البر دوني ... كمخضوب اللبان ولا يصيد٢

وأكثر من ذلك نجد كثيرًا من المؤمنين والمؤمنات يدفعون بأبنائهم إلى الجهاد دفعًا؛ إذ ليسوا بحاجة إليهم، وقد انتفت حالات العجز والضعف التي دفعت بالخلفاء إلى رد الأبناء على آبائهم الضعاف، ومنعهم من الجهاد إلا بموافقتهم. فنجد الخنساء الشاعرة المعروفة تدفع ببنيهما الأربعة إلى الجهاد ليلة القادسية، وقد أخذت توصيهم قائلة: "إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو.. إنكم لبنو رجل واحد وامرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا


١ الإصابة ج٢، ص١٨١.
٢ ديوان الهذليين ج٢، ص١٧٠، الأغاني "ساسي" ج٢، ص٤٧.

<<  <   >  >>