للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قدرت هذا وتأتَّى لي أن أرى هذه المرحلة ليست كما وصفت، وإنما هي فترة حية، لم تستطع الظروف القاسية التي رافقتها من حركة الفتح والهجرات والصراع أن تذهب فيها بالمواهب الفنية للنفس العربية التي ألفت الشعر ومرنت عليه، وما كان لهذا التيار المتدفق عبر القرون من الماضي النفسي والوجداني البعيد لهذه الأمة أن ينقطع في هذه المرحلة ليتصل من جديد، أو يمحى ليخلقه العرب فيما بعد خلقًا آخر في عصر بني أمية، على ضخامة ما رافق هذه المرحلة من أحداث شملت جوانب الحياة الإسلامية.

ولقد يبدو غريبًا ونحن نعتبر شعر الحرب أناشيد بطولة الأمة وسجل عزها وخلودها ألا نجد في الدراسات الأدبية عناية بشعر الشعراء المحاربين في هذا الآونة، بل إننا لنعجب أن كثرتهم مجهولون ومغمورون، وبعيدون عن الأضواء، ومحرومون من الاحتفال بحيواتهم وشخصياتهم وشعرهم!

ولقد سلكت إلى قصدي نهج التبويب والتفصيل والترقيم، معتمدًا على التحليل والتركيب حينًا، والمقارنة والنقد حينًا آخر؛ لاستجلاء المقومات والطوابع الفنية للشعر، وربطها بمسبباتها والأصول التي صدرت عنها، ونظرت إلى موضوعي الذي آثرته فوجدت أن بعض الدارسين يربطون بين هذا الشعر وبين شعر الملاحم، ويفترضون أن هذه الأشعار المفرقة ليست إلا ملحمة في حاجة إلى النظم، فكان ضروريًّا أن أعقد تمهيدًا أقرر فيه حقيقة شعر الفتح وغنائيته، وأفرق بينه وبين شعر الملاحم القصصي الذي يختلف عنه في شروطه وقواعده، ثم وجدت أن الشروع في استكناه مقومات شعر الفتح يستوجب دراسة الفتوح ذاتها كوعاء لهذا الشعر، وتلك بدورها بحاجة إلى دراسة تلك الدوافع التي انثال المسلمون بوحي منها، ينساحون في الأرض حاملين في مواضع الاعتقاد منهم الأمن والثقة والأمل بما وُعدوا، إلى جانب الدعوة لهذا الدين الذي ارتضوه، وكان على الدارس إزاء هذا أن يتعقب هذا الانطلاق في إطار التاريخ شرقًا وغربًا وشمالًا وفي كل اتجاهاته؛ ليعرض من ثم لمواكبة الشعر للأحداث في الميادين المختلفة، متتبعًا الشعراء ومدى خصبهم وأصالتهم وأسباب ذلك، الأمر الذي يستدعي بالضرورة تصنيف الجيوش والإمدادات تصنيفًا يتعقب هذه الأصالة الفنية

<<  <   >  >>