للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك أن هذه الرؤيا الفنية تخلق نموذجًا خاصًّا للعالم وللأشياء، وهذا النموذج في الاتصال الصحفي يجب ألا يكون بعيدًا عن الأصل والواقع الملموس، فالجتمع الحديث -كما يقول والتر لبمان١- لا يقع في مجال الرؤية المباشرة لأحد، كما أنه غير مفهوم على الدوام، وإذا فهمه فريق من الناس، فإنَّ فريقًا آخر لا يفهمه٢, وهنا تحدد الرؤيا الفنية أساليب التحرير الصحفي في الشرح والتفسير والتكامل، من خلال معرفةٍ واعيةٍ بالقوانين الداخلية المنطقية الموضوعية التي تحكم فن التحرير الصحفي، وفي الوقت نفسه لا يتعارض هذا الفهم مع حرية الإبداع والتماس الأساليب الجديدة في التعبير الفني، وحق الكاتب في نقد الأخطاء المتصلة بالناس والمجتمع. وهنا تفتح أبواب التجديد أمام التجربة الاتصالية التي لا تنبع من مقدمات تعسفية مغرقة في الذاتية، فالشكل الفني ليس مجرد "تقنية"، أو قوقعة مغلقة على نفسها، ذلك أن التعبير عن المضمون يتمُّ من خلال الشكل وفي إطاره، وهنا يكون واجب الكاتب ابتداء أن يظاهر تقاليد فن القول في أمته، على نحو ما تبيَّنَ من عناصر الأصالة في مقال طه حسين.

غير أن مراعاة عناصر الأصالة تلك لا تعني التمسك بقوالب معينة في فن القول، أو التشبث بأهداف قوالب جامدة في كتابة النثر, ذلك أن مفردات المعاجم ذاتها تتغيَّر مدلولاتها كل عشر سنوات تقريبًا، وإن كان هذا لا يشوّه هيكل اللغة نفسها، ويحدد طه حسين موقفه من هذه المسألة بقوله٣:

"وما أحب أن يظن القارئ أني أريد أن تكتب الصحف بلغة الحريري في مقاماته, فلست أبغض شيئًا كما أبغض لغة الحريري في تلك المقامات, ولا أريد أن تكتب الصحف بلغة الجاحظ وأمثاله من كُتَّابِنَا القدماء, فقد انقضى عصر أولئك الكُتَّابِ وأصبح مذهبهم في الكِتَابة لا يلائم العصر الذي نعيش فيه, ولا يلائم الصحف بنوع خاصٍّ، وإنما أريد أن تُكْتَبَ الصحف بلغة هذا العصر الحديث"٤.

وعلى ذلك فإن فن المقال في أدب طه حسين يأتلف من عناصر الأصالة والتجديد جميعًا، ويؤلِّفُ بينها وبين طبيعة العصر الحديث ووسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير، وأغراضه ومراميه ومستويات جماهيره، ومنازعه السياسية والاجتماعية والفلسفية والاقتصادية والعلمية والأدبية بمدلولها الحصري، حتى لا يتبقى باب من أبواب الإعلام والمعرفة والإنسانية إلّا وطرقه هذا المقال الصحفي,


١، ٢ الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص٧، ١١.
٣، ٤ جريدة الجمهورية في ٢٠ أغسطس ١٩٦٠.

<<  <   >  >>